أسواق الكربون هي البورصات التي تقوم فيها الشركات أو الدول بشراء وبيع حصص (تسمى أرصدة أو اعتمادات) من انبعاثات غاز ثاني أكيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري، حيث تدفع الجهة الراغبة في تلبية التزاماتها بخفض انبعاثاتها لجهة أخرى تُخفض انبعاثاتها بالفعل، ويكون تقييم تلك العملية وفق برامج تتضمن معايير التقييم، فيما تدخل عوامل مختلفة في عملية تسعير أرصدة الكربون التي يتم تداولها بالأسواق.   

ويعتمد تداول أرصدة واعتمادات الكربون على مبادئ تشجيعية تهدف إلى تخفيض أو إزالة انبعاثات الكربون من الغلاف الجوي، وتعتبر جزء من محاولات وطنية ودولية لكبح ظاهرة التغير المناخي. 

وتتكون أرصدة واعتمادات الكربون من مجموعة متنوعة من مشروعات تخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، يتم تحديدها في إطار برامج كوسيلة للبلدان لتحقيق التزاماتها بخفض انبعاثاتها -ضمن أهداف اتفاقية باريس للمناخ المُبرمة خلال قمة المناخ عام 2015- بتكلفة أقل.  

بداية ورحلة إنشاء أسواق الكربون 

في عام 1977 صدر قانون الهواء النظيف في الولايات المتحدة، وهو من أول آليات التعويض عن الانبعاثات الناتجة عن الأنشطة الصناعية والتجارية في العالم.

وسمح هذا القانون للشركات التي ترغب في زيادة انبعاثاتها بالقيام بذلك عن طريق الدفع لشركة أخرى تخفض انبعاثاتها من نفس الملوث بمقدار أكبر. أي أن القانون كان بداية لتشجيع مادي للشركات على تخفيض انبعاثاتها بصورة ما. 

ثم، في عام 1990 تم إجراء تعديلات على القانون نفسه، مما سمح للشركات بالتوسع في شراء وبيع أرصدة الكربون بينها بهدف الاستثمار في مشروعات للحد من الانبعاثات. 

وبعدها تم إنشاء آلية التنمية النظيفة (CDM) كجزء من بروتوكول كيوتو، الذي تم اعتماده خلال قمة المناخ في عام 1997 والذي تلزم مرحلته الأولى الدول الصناعية بالحد من الانبعاثات. وقامت هذه الآلية بتوسيع مفهوم تجارة انبعاثات الكربون إلى مستوى عالمي، وركزت على غازات الاحتباس الحراري الرئيسية التي تسبب تغير المناخ.

وتُمكن تلك الآلية البلدان المتقدمة من رعاية مشروعات للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الدول النامية، وذلك لأن تكلفة أنشطة الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عادة ما تكون أقل بكثير في البلدان النامية. 

الأسواق والبرامج  

مع الوقت تم إنشاء مجموعة متنوعة من الأسواق التي تسمح بتداول أرصدة الكربون واستضافة العروض والطلبات ضمن عدد من البرامج في ما يعرف بأسواق وبرامج تعويض وائتمان الكربون. وبحلول عام 2022 أصبح هناك 66 برنامج لتسعير الكربون قائم أو مقرر إنشاؤه حول العالم قبل أن يقفز العدد إلى 73 في عام 2023.  

وطبقا لتلك البرامج يحصل البلد المتقدم على رصيد لتحقيق أهدافه بتخفيض الانبعاثات، في حين يحصل البلد النامي على استثمار رؤوس المال والتكنولوجيا النظيفة التي تسمح بزيادة فرصه نظريا في مجابهة التغيرات المناخية أو التكيف مع آثارها. 

ويمكن من الرسم البياني المرفق ملاحظة أن عدد برامج التسعير في الـ 17 عام الأولى ما بين 1990 و2007 كان فقط 10، قبل أن يتضاعف لأكثر من 7 مرات في الـ 17 عام الأخيرة منذ 2007 وحتى الآن. ويُمكن أن يرجع هذا بالأساس لتطور الوعي بخطورة التغيرات المناخية وبدء إنشاء صناديق تمويل العمل المناخي بالتزامن مع قرارات مؤتمرات الأطراف. 

تحديد القيمة 

تراوحت الأسعار خلال عام 2022 في سوق الكربون ما بين 8 و30 دولار للطن من "مكافئ ثاني أكسيد الكربون" لأنواع الأرصدة الأكثر شيوعا من الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ومكافئ ثاني أكسيد الكربون هو مقياس لانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وفقا لمقدار الاحترار العالمي الذي قد تسببه. 

إلا أن هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر على هذه الأسعار، أهمها تكاليف تطوير المشروع وظروف العرض والطلب. كما أن مستجدات الاستثمار قد تُغير من بوصلة الأسعار. فعلى سبيل المثال تلاحظ أنه تم بيع المشروعات التي يمكنها التقاط وتخزين الكربون بسعر أعلى مقارنة بالمشروعات الأخرى مثل الطاقة المتجددة أو كفاءة الطاقة، وذلك بعد الاهتمام الكبير المُعطى لها خاصة مع توجه دول الخليج للاستثمار فيها بقوة مؤخرا. 

وبخلاف هذا التسعير، فقد أصدرت وكالة حماية البيئة الأمريكية (EPA) الحكومية -المعنية بحماية صحة المواطنين والطبيعة- تقرير لتقدير التكلفة الإجمالية السلبية للكربون على المجتمع. ويلخص الرسم البياني أدناه هذه التكاليف المتوقعة بمرور الوقت وفقا للمخاطر والافتراضات المختلفة لعلوم المناخ.

يعبر الرسم البياني عن القيم السعرية القصوى والأدنى سابقا والمحتملة في المستقبل لكل متر مكعب من الانبعاثات الكربونية وفقا للتكلفة السلبية التي يتكبدها المجتمع. وهو ما يعني أنه مقابل كل طن من ثاني أكسيد الكربون نطلقه في الغلاف الجوي، فإننا نضحي بما يتراوح بين 12 و212 دولار من التدهور البيئي والآثار الاجتماعية السلبية حتى منتصف القرن الحالي. وينبغي أن تؤخذ هذه العوامل في الاعتبار عند تقييم المشروعات وتسعير رصيد الكربون. 

تلك المعلومات والبيانات دفعت العديد من المؤسسات ومنها مؤسسة جولد ستاندرد -التي أسستها منظمات غير حكومية دولية لضمان أن مشروعات خفض انبعاثات الكربون لديها أعلى مستويات السلامة البيئية وتساهم في التنمية المستدامة- لإجراء تقييمات شاملة للمشروعات المختلفة الهادفة لتخفيض الانبعاثات وفقا لكل طن من الانبعاثات المخفضة منها. 

كان المتوقع هو أن الاستثمارات ستوجه إلى المشروعات ذات الفائدة الاجتماعية والبيئية الكبيرة مثل مشروعات معالجة المياه أو توليد الطاقة من المخلفات، ومع زيادة الاستثمارات بتلك المشروعات وانتشارها ستنخفض تكلفتها (أسعارها) في أسواق الكربون. 

لكن اتضح أن الفوائد الاجتماعية والبيئية ليست العامل المؤثر، بل إنه العرض والطلب المعتمد على العائد الاقتصادي مقابل التكلفة، وهو بدوره ما دفع إلى زيادة الطلب على بعض المشروعات مثل تلك المتعلقة بالطاقة المتجددة، ليكثر عددها وينخفض سعرها أكثر بالنظر للطلب المتزايد عليها.   

وبسبب مسألة العرض والطلب هذه، فإن مشروعات مواقد الطهي النظيف -على سبيل المثال- التي تعمل بالوقود الحيوي المنتج من المخلفات في القرى، والتي غالبا ما توفر فوائد صحية مهمة لمواطني المناطق الأقل تحضرا، أسعارها أعلى عموما من مشروعات الطاقة المتجددة، لانخفاض الطلب عليها وبالتالي عدم انتشارها.  

ويضيف انجذاب الاستثمارات نحو مشروعات بعينها مزيد من التحديات، إذ أن أنظمة تداول أرصدة الكربون لن تكون الحل لتطوير المشروعات المستدامة باختلاف أنواعها، بل إنها ستنجذب بصورة أكبر إلى المشروعات التي تجلب الربح الأكبر وقت الاستثمار بما يبرر تزايد الطلب عليها. 

للمزيد: الغسيل الأخضر والفساد المناخي... ما هما؟

(إعداد: عمر الحسيني، للتواصل: zawya.arabic@lseg.com)

#تحليلمطول

لقراءة الموضوع على أيكون، أضغط هنا

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا