لم يكد العالم يأمل في الخروج من جائحة كورونا نحو طريق التعافي الاقتصادي، حتى وجد أمامه طريق متعرج به العديد من التخبطات والأحداث العاصفة.

مشاكل مستمرة في سلاسل الإمداد، معدلات تضخم يبدو أنها ليست تحت السيطرة كما كان يأمل صانعو السياسة النقدية في العالم، وأحداث بتداعيات مختلفة على الأسواق الناشئة. وحالياً، تمر تركيا – وهي سوق ناشئ له ثقله وتأثيره – ببعض الأحداث العاصفة، التي تدفعنا هنا للتساؤل ما إذا كان تأثيرها قد يمتد لأبعد من حدودها الخاصة، طائلاً أسواق ناشئة أخرى. 

انخفاض كبير في الليرة.. 

شهدت الليرة التركية انخفاض كبير  منذ 2018  بسبب  العلاقات السيئة بين الرئيس الأمريكي  وقتها  دونالد ترامب وتركيا والتي أدت إلى فرض أمريكا عقوبات على تركيا - والتي تضمنت تجميد أرصدة وأصول تابعة لمسؤولين كبار في مؤسسات الدفاع والأسلحة التركية - مما أدى الي تخوف بعض  المستثمرين من عدم قدرة الشركات التركية على سداد قروضها بالعملات الصعبة. وبعدها بعامين جاءت كورونا لتزيد من الأمر سوءا.

وهذا العام منذ يناير 2021 وحتى وقت كتابة هذا المقال في أواخر ديسمبر 2021، خسرت الليرة التركية حوالي 55% من قيمتها أمام الدول الأمريكي، إلا أنها مرت خلال الفترة الماضية بمحطات انخفاضيه أكثر عنفاً اصطدمت فيها بقاع تحت 18 ليرة لكل دولار قبل تحقيق مكاسب لاحقاً ارتدت فيها لمستويات ال11 ليرة لكل دولار وفقاً للأرقام المتوفرة على منصة إيكون التابعة لريفينيتيف. 

>

وتعود أزمة الليرة إلى مشكلات هيكلية اقتصادية موجودة منذ سنوات لكنها تظهر على السطح كل فترة. فعادة ما يكون انهيار عملة دولة ما عرض وليس المرض ذاته. وفي هذه الحالة، يعتبر انخفاض الليرة التركية ناتج عن اختلالات أكثر خطورة في القطاع الخارجي التركي، مع استمرار مشكلات الحساب الجاري بميزان المدفوعات والذي تفاقم بوجه خاص في 2018، إلا أن الأزمة في تركيا ليست اقتصادية فقط وإنما يشوبها بعض السياسة كذلك، حيث تستمر أزمة الثقة فيما يخص تأثير أردوغان على السياسة النقدية وتدخلاته العلنية في قرارات البنك المركزي التركي. 

  هل يتجاوز الأمر حدود إسطنبول إذن...؟ 

من الصعب أن تظل التغيرات الاقتصادية الكبيرة حبيسة حدود الدولة التي تحدث فيها، خاصةً إذا كانت تلك الدولة تتسم بالانفتاح الاقتصادي ولديها علاقات قوية تجارياً واستثمارياً بالعالم الخارجي. وهنا، نرصد سريعاً بعض نقاط التأُثير المحتمل لما يحدث بإسطنبول: 

 أحد العوامل التي قد تتضرر منها الأسواق الناشئة هي انخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي في أدوات الدين المحلي.

فما يحدث حالياً من اضطراب في الليرة التركية واهتزاز الثقة في السياسة النقدية لأردوغان يثير المخاوف بشأن العملات المحلية للأسواق الناشئة الأخرى بدورها، خاصة إذا ما تصادف مع أحداث أخرى غير مواتية لتلك الأسواق بشكل عام، مثل رفع الفيدرالي للفائدة وارتفاع مخاطر التضخم مع تراجع معدلات النمو.

ولكم يشبه اليوم البارحة، فلنا أن نرجع إلى أحداث النصف الثاني من 2018 حين تفاقم عجز الحساب الجاري التركي، متزامناً مع تصاعد سياسات الحمائية التجارية التي اتخذها ترامب ضد الواردات التركية للولايات المتحدة من الصلب على سبيل المثال، بالإضافة إلى رفع الفيدرالي لأسعار الفائدة آنذاك.

حينها، انخفضت شهية المستثمرين الأجانب بشكل كبير لأدوات الدين المحلي للأسواق الناشئة. فمع انخفاض العملة لدولة ما، ينخفض العائد الذي يحققه المستثمر الأجنبي حين يقوم بتحويل أمواله مرة أخرى للدولار للتخارج من السوق، وهو ما يجعل صناديق الاستثمار تحجم عن الدخول في المخاطرة من الأساس. 

بشكل عام، ونظرياً على الأقل، يعتبر انخفاض قيمة العملة لدولة ما دافع لرواج صادراتها للخارج.

وبالرغم أن هناك العديد من العوامل الأخرى المحددة لنمو الصادرات من عدمه، إلا أن السلعة تجد فرصة أكبر لاختراق السوق الخارجية عندما تنخفض قيمتها المادية لسكان الدول الأخرى.

ومع انخفاض الليرة، قد تواجه الدول التي ترتبط معها بعلاقات تجارية اتساع في العجز التجاري الثنائي مع تركيا لصالح الأخيرة.

بمعنى أبسط، نجد تصاعد في أرقام الواردات القادمة من تركيا وانخفاض في الصادرات إليها.  فإذا نظرنا إلى مصر على سبيل المثال، نجد أن العجز التجاري الثنائي مع تركيا قد اتسع من 800 مليون دولار خلال العام المالي المصري 2017/2018، إلى 1.5 مليار دولار أمريكي في العام المالي 2018/2019، وهو ما نتج عن كل من تراجع  الصادرات المصرية إلى تركيا وارتفاع الواردات منها، في تطبيق واقعي واضح لعلاقات اقتصادية نظرية منطقية. 

من ناحية أخرى، ساهم انخفاض الليرة التركية في تضرر قطاع النسيج في المغرب، بعدما انتعشت الواردات التركية من الملابس بشكل كبير مما أثر على الصناعة الوطنية المغربية، الأمر الذي دفع السلطات المغربية لمراجعة الجمارك على واردات الملابس التركية ورفعها بنسبة 90% في أكتوبر 2020.

وفي سياق مشابه، تراجعت صادرات مصر إلى تركيا من الحديد والصلب من 105 مليون دولار في 2018 إلى حوالي 6 ملايين فقط في 2019، حين ارتفعت الواردات من تركيا من الحديد والصلب من 271 مليون دولار إلى أكثر من 492 مليون دولار أمريكي على مدار نفس السنتين، مما دفع وزارة التجارة والصناعة المصرية لإصدار قرار بفرض رسوم حماية على واردات الدولة من بعض أصناف منتجات الحديد والصلب في أكتوبر 2019، إلا أن هذا القرار قد تم إلغاؤه لاحقاً في نوفمبر 2021. 

ولا نعتقد أن الأمر يقتصر على ذلك، فهناك قنوات أخرى قد يتسرب منها تأثير انخفاض الليرة إلى باقي الأسواق الناشئة ومنها بعض الدول العربية. ولكن قد يتسع المجال لسردها بشكل أنسب في جزء آخر. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

#مقالرأي

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.