في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان، تعود مسألة المصارف وودائع المواطنين إلى الواجهة مجددا، وذلك بعد أن أعلنت الحكومة اللبنانية في نوفمبر 2023 عن مشروع قانون هيكلة المصارف كخطوة جديدة نحو إصلاح القطاع المصرفي في البلاد.

يتجلى الواقع الاقتصادي في لبنان عبر الأزمة المالية والنقدية التي تعاني منها البلاد لمدة تقارب الأربع سنوات، حيث تأثر القطاع المصرفي بشكل كبير وفقد دوره الحيوي في دعم الاقتصاد الوطني. 

الانهيار الذي شهده القطاع المصرفي ينعكس في عدم قدرة البنوك على إعادة الودائع المقومة بالدولار للمودعين، نتيجة لنقص العملات الصعبة وتراجع احتياطي العملات الأجنبية إلى مستويات متدنية.
 
وخلال العام الماضي (2023) لم يشهد القطاع المصرفي أي تطورات تُذكر في ما يتعلق بعملية إصلاحه، أو هيكلته، أو تحديد مصير الودائع المحتجزة بقيمة 90 مليار دولار ومصير الفجوة المالية المُقدرة بنحو 72 مليار دولار.

وقد أثار الإعلان عن مشروع قانون هيكلة المصارف جدل واسع في أوساط المجتمع المالي والاقتصادي، حيث يُعتبر هذا القانون خطوة حيوية لاستعادة الثقة في القطاع المصرفي المتضرر. 

فمن جانب سارعت المصارف إلى رفض مشروع القانون، في حين أيده خبراء آخرون، أما الحكومة فقد أعادت المشروع إلى الدراسة من جديد.

ويهدف مشروع قانون هيكلة المصارف إلى إعادة هيكلة القطاع المصرفي من خلال إعادة رسملة المصارف المتعثرة، وتصفية المصارف غير القادرة على الاستمرار، وحماية حقوق المودعين. 

وفي سياق تقديم هذا المشروع، أشار نائب رئيس الحكومة والداعم الأكبر للقانون سعادة الشامي إلى أن الهدف الرئيسي هو بناء هيكل جديد للمصارف يعزز الشفافية ويعيد هيكلة القطاع بشكل يجعله قادر على تقديم خدماته بكفاءة وفعالية. 

ومع ذلك، يُثار تساؤل كبير حول فعالية هذه الخطوة خاصة بعد مرور أربع سنوات على الأزمة المالية والاقتصادية بلبنان، وعدم إقدام الحكومة حتى الآن على إجراء تدقيق شامل للموجودات والخسائر في المصارف، ودون إقرار صندوق استرداد الودائع، الذي يهدف إلى رد الودائع العالقة للمودعين عبر إيجاد مصادر تمويل لها.

مؤيدو المشروع

يؤيد العديد من الخبراء والاقتصاديين مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، ويرون أنه الحل الوحيد للخروج من الأزمة المصرفية التي يعاني منها لبنان.

وشهد الاقتصاد اللبناني في السنوات الأخيرة أزمة حادة نتيجة لعدة عوامل، بدأت من تفاقم أزمة الديون وتراجع الليرة اللبنانية. وفي أعقاب انفجار مرفأ بيروت في عام 2020، تكشفت أزمة أخرى بالبنوك اللبنانية، حيث فُرضت قيود على سحب الأموال وتقلصت قيمة الودائع المصرفية. 

وقد تفاقمت هذه الأزمة بفعل سوء الإدارة والفساد في النظام المصرفي اللبناني. وفي ظل تدهور الوضع الاقتصادي، اشتعلت حركات احتجاج واضطرابات اجتماعية وسط حالة من القلق والاحتقان بين المواطنين.
 
ويعتقد مؤيدو مشروع القانون أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي ضرورية لإعادة الثقة إلى القطاع المصرفي، ولتحفيز الاستثمارات المحلية والخارجية، كما أنها ضرورية لإعادة تنشيط الاقتصاد اللبناني.

ويرون أن المشروع يحمي حقوق المودعين، من خلال ضمان استردادهم لأموالهم حتى مبلغ 100 ألف دولار. كما أنه يفرض مسؤولية على أصحاب المصارف المتعثرة، من خلال إمكانية الحجز على أموالهم في حال عدم قدرتهم على رد أموال المودعين.
 
الموقف المعارض 

على الجانب الآخر، يعارض العديد من المصرفيين مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، لأنهم يرون أنه يحمل المصارف وحدها مسؤولية أزمة انهيار القطاع المصرفي، ويحرمها من الاستفادة من أموال المودعين في إعادة هيكلة نفسها.

ويؤكد المعارضون أن الأزمة المصرفية في لبنان ناجمة عن عوامل متعددة، منها سوء الإدارة والفساد السياسي، فضلا عن السياسات النقدية المتبعة من قبل مصرف لبنان المركزي.

ويتخوف المعارضون للمشروع من أن يؤدي إلى تصفية العديد من المصارف، مما سيؤدي إلى خسارة العديد من الوظائف، وزيادة معدلات البطالة.

وبموجب المشروع المقترح، من المتوقع أن يعين كل مصرف، بموافقة هيئة الرقابة على المصارف أو من قبل الهيئة نفسها، مدقق حسابات لتدقيق موجودات البنك والتزاماته. وبناءً على هذا التدقيق، يمكن تصنيف كل بنك على أنه إما مؤهل لإعادة الهيكلة أو الإصلاح أو بحاجة إلى التصفية.

ويسود خلاف بين الحكومة اللبنانية والمصارف التجارية في ظل الأزمات التي يشهدها البلد، وأخذ الخلاف أبعاد جديدة بعد تقديم وكلاء قانونيين لـ 11 مصرف تجاري مذكرة تتعلق بتحديد الخسائر وتوجيه المسؤوليات في الأزمة المالية وفي ما يتعلق بالودائع. 

وتقول المصارف إنها دائنة لمصرف لبنان، وإن المصرف لم يطلب من الدولة اللبنانية سداد المبالغ التي استدانتها منه والتي بدورها تؤول إلى المصارف لإعادتها للمودعين، وأنه يجب على الحكومة تغطية الخسائر التي تظهر في عجز ميزانية مصرف لبنان بعد تصحيحها بناء على تقرير شركة التدقيق "ألفاريز أند مارسال" العالمية التي عينتها الحكومة.
 
وتتمثل أيضا أحد أسباب الجدل بشأن مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف في عدم توفر قاعدة إحصائية موثوقة تكون مرجعا لعمليات الهيكلة والإجراءات المقترحة للمصارف. 

والمشكلة الأكبر تكمن في عدم استعانة الحكومة بشركة/أو شركات تدقيق عالمية لتقييم المواقف المالية للمصارف. ويثير هذا الأمر مخاوف بشأن دقة الأرقام التي سوف تستند إليها عملية الهيكلة، ليسود تساؤل عما إن كان القانون سيصبح قاعدة صلبة للإصلاح أم مجرد إعلان آخر بلا تأثير عملي؟

وتجدر هنا الإشارة إلى ضرورة أن تتمتع عملية هيكلة المصارف بالشفافية والنزاهة، وأن تكون مدعومة بأرقام وإحصائيات دقيقة. ويجب أن يتم تحديد المسؤوليات بشكل واضح، مع إلزام المصارف بتحمل جزء من المسؤولية وعدم تحميل كامل العبء على عاتق المودعين.

ويظل الجدل مستمر بشأن مشروع قانون هيكلة المصارف، ويتطلب الأمر تدقيق دقيق في جوانبه المالية. ولنا أن نتساءل أخيرا: كيف يمكن القيام بهيكلة المصارف قبل تطبيق الإصلاحات الأساسية، وانتظام مالية الدولة التي تشكل العنصر الأساسي في الانهيار المالي والمصرفي في لبنان؟

(إعداد: محمد طربيه، أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)  
 
(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)