أصبحت تأثيرات الاحتباس الحراري مشكلة عالمية متراكمة بسبب الأنشطة البشرية المتزايدة التي أدت إلى تبدل الدورة الطبيعية لتغير المناخ -مثل تعاقب الفصول ونسبة تغير الضغط الجوي المحددة لقوة الأعاصير وغيرها- نتيجة استمرار تصدير انبعاث الغازات الدفيئة المختلفة -المسببة للاحتباس الحراري- من الوقود الأحفوري.

وصرحت منظمة الصحة العالمية في أكثر من مناسبة بأن ارتفاع درجة حرارة الأرض والحرق المفرط للوقود الأحفوري يعدان من أكبر التهديدات للصحة عالميا. وبالتالي، فإن زيادة متوسط درجة حرارة سطح الأرض ليس لها تأثير فقط على نظام المناخ، ولكن على صحة الإنسان أيضا.

التغيرات المناخية في 2023

وصلت الأرقام النهائية في تسجيل درجات الحرارة بشكل رسمي لعام 2023 إلى معدلات قياسية تاريخية، لتكون أعلى سنة من حيث درجة الحرارة ومحطمة بذلك الأرقام السابقة، وكذلك توقعات العديد من علماء المناخ. كما يتوقع الباحثون البيئيون بأن عام 2024 قد يكون أسوأ.

فقد صرحت خدمة كوبرنيكوس للتغير المناخي في المركز الأوروبي للتوقعات الجوية بأن عام 2024 سيشهد موجات حرارة لا يمكننا التنبؤ متى وأين ستحدث. وهو نفس ما تؤكده الظواهر المختلفة كدرجات حرارة المحيطات، التي فاقت بكثير المعدل المعتاد لهذا الوقت من السنة.

هذه العوامل وغيرها تشير إلى أن عام 2024 قد يشهد ظواهر جوية وتأثيرات مناخية أكثر تطرفا من عام 2023، طالما استمر العالم في إطلاق الغازات الدفيئة التي تحبس الحرارة في الغلاف الجوي.

رايات حمراء 

وفقا لبيانات سابقة، كانت درجات حرارة سطح الأرض في عام 2023 تتراوح ما بين 1.34 إلى 1.54 درجة مئوية فوق المعدلات التي كانت موجودة في الفترة التاريخية ما بين عام 1850 إلى 1900، وهي فترة تعبر عن مرحلة ما قبل أوج الأنشطة الصناعية المسؤولة بشكل كبير عن الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.

تأتي المشكلة من أن كل القياسات المُعلنة من أغلب المراكز المعنية بالمناخ، ومنها كوبرنيكوس، أشارت إلى أن درجات حرارة كل يوم في السنة الماضية (2023) كانت أدفأ بمقدار 1 درجة مئوية في المتوسط -بل وأحيانا أكثر- عن الفترة التاريخية المذكورة من القرن التاسع عشر. وهذه هي المرة الأولى التي يتم تسجيل هذا الفارق الواضح في كل الأيام.

تستنتج جميع البيانات أن المتوسط العالمي لدرجات الحرارة السنوية كان قريبا من أو فوق الحد المسموح به البالغ 1.5 درجة مئوية، والذي تعهدت الدول بالسعي لتجنبه في اتفاقية باريس للمناخ عام 2015 بهدف المساعدة في منع تدهور وضع التغيرات المناخية وآثارها.

ولكن العالم الآن على وشك تجاوز تلك القيمة، حيث أن ما يقرب من نصف أيام عام 2023 تعدت درجات حرارتها إلى ما هو أكثر من 1.5 درجة مئوية فوق المتوسط عن ما قبل الثورة الصناعية الثانية في 1870.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، فوفقا لنفس البيانات، فقد تجاوزت زيادات درجات الحرارة في بعض أيام شهر نوفمبر 2023 حاجز الـ 1.5 درجة لتصل إلى 2 درجة مئوية.

التغير المناخي الأكبر تاريخيا

تتفق مختلف البيانات المتعلقة بالمناخ على أن عام 2023 شهد أعلى درجة حرارة مسجلة على الإطلاق وذلك فى يوم 6 يوليو من ذاك العام. كما أن درجات الحرارة في نصفه الثاني -بداية من شهر يونيو حتى نهاية ديسمبر- كانت أعلى درجات حرارة مسجلة في التاريخ.

يذكر أن هذه الدرجات المسجلة تعتبر على الأرجح الأعلى حرارة في الـ 100 ألف عام الماضية.

لم يكن هذا التفاقم مفاجئ، إذ شهد عام 2023 وحده حجم قياسي من الانبعاثات بلغ 36.8 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون الناتج من الوقود الأحفوري، بزيادة بنسبة 1.1% على أساس سنوي. وبشكل عام، توقع المكتب الوطني للأرصاد الجوية في المملكة المتحدة تجاوز المتوسط العالمي لدرجة حرارة سطح الأرض الحد البالغ 1.5 درجة مئوية في عام 2024.

وبرغم أن هذا التجاوز لمدة عام واحد لا يعني بأن اتفاقية باريس قد انتهكت رسميا، لكن أغلب المؤشرات توضح إمكانية استمرار تخطي القيم المتفق عليها خلال السنوات المقبلة، على الرغم من اتخاذ العديد من التدابير الوقائية وتطوير التكنولوجيا الجديدة لمكافحة تغير المناخ.

تغير المناخ في 2024

كان عام 2016 هو صاحب الرقم القياسي السابق لارتفاع درجات الحرارة قبل عام 2023، إلا أنه كان هناك تحليلات باحتمالية تصل إلى 93% بأن يكون أحد الأعوام بين سنتي 2022 و2026 هو العام الأكثر دفئا في التاريخ المعروف.

ورغم حدوث ذلك بالفعل في صيف عام 2023، إلا أنه من المتوقع تسجيل درجات حرارة قياسية في جميع أنحاء العالم في عام 2024. كما تتوقع أغلب التحليلات بأن متوسط درجة حرارة العالم في الفترة الخمسية ما بين أعوام 2022 إلى 2026 سيكون أعلى من الفترة الخمسية السابقة ما بين 2017 إلى 2021.

كانت هناك تداعيات جلية للتغيرات المناخية في عام 2023، حيث تعرضت العديد من الدول لموجات حرارة شديدة. ففي المكسيك، على سبيل المثال، توفي أكثر من 100 شخص خلال أسبوعين في يونيو الماضي بسب تلك الموجات، مع ارتفاع درجة الحرارة إلى ما يقارب 50 درجة مئوية في أجزاء من البلد.

كما سجلت مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكية درجات حرارة تعدت الـ 40 درجة مئوية لمدة طويلة، مع بلوغها 43 درجة في 31 يوم متتالي كظاهرة لم تحدث من قبل.

وعلى غرار الحوادث والكوارث البيئية الأخرى المتعلقة بالتغيرات المناخية التي شهدها عام 2023، مثل انهيار سد درنة بليبيا وحرائق الغابات في قارات عدة، فمن المتوقع حدوث تداعيات سلبية أخرى خلال عام 2024 مع زيادة فرص ارتفاع متوسط درجة حرارة العالم فوق 1.5 درجة مئوية.

تحركات دولية للمجابهة في 2024

كما جرت العادة في السنوات الأخيرة، سيحاول المجتمع الدولي من جديد الإجماع على حلول جديدة تقاوم ظاهرة تغير المناخ، لكن تيار ملحوظ من النشطاء البيئيين أصبح غير متأكد من مدى قدرة صناع القرار على تحسين وضع الملف.

تتجه الأنظار في نوفمبر 2024 إلى أذربيجان، حيث سيُقام مؤتمر الأطراف (قمة المناخ) رقم 29 بأجندة محملة بإطلاق المزيد من المبادرات وطرح الحلول ومراجعة قياسات التغيرات المناخية الأحدث.

وكانت قمة المناخ بالإمارات (COP28) في 2023 ركزت على قضايا التمويل المناخي والمراجعة العالمية لوضع الانبعاثات. في حين سبقته قمة المناخ (COP 27) بشرم الشيخ المصرية بتطوير "صندوق الخسائر والأضرار" الهادف لمساعدة الدول المتضررة على الحصول على الدعم المالي لتقليل الآثار الناجمة عن تغير المناخ. لكن حجم ما تم جمعه للصندوق حتى الآن يعتبر غير كاف لدحر الظاهرة.

ومن المتوقع أيضا طرح حزمة جديدة من مشروعات التكيف مع تغير المناخ ومجابهته في العديد من الدول الكبرى والنامية على حد سواء. تشمل تلك المشروعات تطوير البنية التحتية من جهة والاستثمار في الحلول التكنولوجية من جهة أخرى، لعل أبرزها مشروعات الطاقة المتجددة وتخزين الكربون.

 

(إعداد: عمر الحسيني، مهندس استشاري للبنية التحتية والحلول البيئية ومحاضر الهندسة البيئية بفرع جامعة كوفنتري البريطانية في مصر والجامعة الأمريكية بالقاهرة) 

#مقالرأي

( للتواصل zawya.arabic@lseg.com)