لا تزال التحديات الاقتصادية تكشر عن أنيابها في وجه مصر، التي تستعد لانتخابات رئاسية ديسمبر المقبل، فيما يضع صندوق النقد الدولي خفض الجنيه رهانا لدعم الاقتصاد المٌنهك مع محاولات الحكومة جذب دولارات الخليج بإتمام صفقات بيع أصول وتمديد عمر خفض رابع محتمل للعملة المحلية.

 لكن يبدو أن خزائن الدولار لدى البنوك المصرية تعاني من نقص حاد دفعها لتحجيم الطلب.

وقد أجل صندوق النقد مراجعتين للبرنامج الاقتصادي الذي حصلت بموجبه مصر على اتفاق تمويل بقيمة 3 مليار دولار، لكن تسلمت منه شريحة واحدة بنحو 347 مليون دولار. 

ومعاناة مصر الاقتصادية الحالية بدأت مع الأزمة الأوكرانية - الروسية في الربع الأول من العام الماضي والتي رفعت أسعار الطاقة والحبوب بوتيرة سريعة أدت إلى تضخم أتى برفع عالمي لأسعار الفائدة وهروب الأموال الساخنة من الاقتصادات الناشئة مثل مصر التي تعتمد عليها في توفير مخزونها من الدولارات اللازمة لاستيراد حاجاتها الأساسية.

وبينما لا تزال الأزمة الاقتصادية مستمرة، أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في أكتوبر، نيته الترشح لدورة رئاسية مقبلة وأخيرة يتوقع أن يفوز بها لتمد فترة حكمه لـ 16 عام، بينما وفي نفس الشهر كررت مديرة صندوق النقد  كريستالينا غورغييفا تأكيدها بأن مصر عليها أن تخفض عملتها  وإلا "ستنزف" من احتياطياتها.

وهذه التصريحات وإن لم تكن جديدة فإنها تشير إلى تمسك صندوق النقد بطلبه تحرير كامل لسعر صرف الدولار في مصر التي سمحت بانخفاض العملة المحلية 3 مرات في عام واحد بعد الحرب الروسية الأوكرانية لتخفيف حدة تداعيات الحرب على الدولة المعتمدة على الاستيراد بشكل كبير. لكن لا يزال الدولار يتداول في السوق الموازية عند 40 جنيه بفارق كبير عن السعر الرسمي الذي يبلغ 30.9 جنيه.

خفض لا محالة

اتفق 3 محللون تحدثوا لزاوية عربي، على أن خفض سعر الجنيه مجددا قادم لا محالة مع اتساع الفجوة بين السعرين الرسمي والسوق الموازي، ويُتوقع أن يتم عقب الانتخابات الرئاسية، كما يتوقع ألا تُجرى مراجعتي صندوق النقد بدون هذه الخطوة، وإن كانت مصر قد أحرزت تقدم في ملفات أخرى ضمن اتفاقها مع الصندوق خاصة صفقات بيع أصول وشركات تابعة للدولة.

"لن تتم المراجعتين بدون التحول لنظام سعر صرف مختلف. لحد دلوقتي الكلام عن تخفيض مش تعويم، لكن الموعد مرتبط بوتيرة التحول لتلبية هذا الطلب،" حسب ما قاله علي متولي محلل اقتصاديات الشرق الأوسط من لندن لزاوية عربي.

وعن مدى الخفض المتوقع لسعر العملة، قال هاني جنينة، المحاضر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، لزاوية عربي، "أعتقد ممكن يعدي الـ 35 جنيه، على منتصف العام المقبل إذا تم الاتفاق مع الصندوق على خفض تدريجي على أن يصل إلى مستوى 40 جنيه على مدار العام، لكن إذا طلب الصندوق تحرير كامل سيتخطى هذه المستويات ويحدث ما نسميه بالسعر المبالغ فيه قبل أن يرتد مرة أخرى مع تراجع الطلب".

خفض الجنيه، توقعته أيضا وكالة موديز للتصنيف الائتماني، في أحدث تقاريرها عن مصر هذا الشهر مرجحة أن يصل سعر الصرف إلى 35 جنيه للدولار بنهاية السنة المالية الجارية في يونيو 2024، من 30.9 جنيه للدولار في الوقت الحالي، ثم إلى 40 جنيه للدولار في نهاية السنة المالية المقبلة 2025.

لكن الخبير الاقتصادي المصري مدحت نافع، ربط تلك الخطوة بتوفر دولارات لدى الحكومة من مصادر أخرى، وقال نافع إن "ندرة الدولار هي اللي مأخرة القرار، ونحن في حاجة إلى سيولة تتحرك في إطارها العملة، دون ذلك سيكون التحريك صوري وشكلي، وقد يكون مُهندَس في حدود نسبة معينة بين 10-15% لكن التحريك الفعال لن يحدث إلا في وفرة دولارية".

 من أين سيتوفر الدولار؟

تحتاج مصر لتوفير سيولة دولارية لتلبية طلبات الاستيراد لسد احتياجاتها الأساسية، وتمويل الدين الخارجي وخدمة الدين. وتعتمد مصر حاليا على الدولارات القادمة من  إيرادات قناة السويس والسياحة إضافة لتحجيم الطلب على العملة الصعبة حيث أعلنت بنوك كبرى تعليق العمليات بالعملة الأجنبية على بطاقات الخصم المرتبطة بحسابات بالجنيه المصري.

وخلال العام المالي الماضي (يوليو 2022- يونيو 2023) ارتفعت إيرادات السياحة لمصر بنحو 27% لتصل إلى 13.6 مليار دولار، كما تتوقع مصر أن ترتفع إيرادات قناة السويس، إلى نحو 10.5 مليار دولار بنهاية عام 2023. بينما تراجعت تحويلات المصريين العاملين بالخارج العام المالي الماضي بنحو 30.8% إلى 22.1 مليار دولار.

وقدرت وكالة موديز، احتياجات مصر لسداد خدمة الدين خلال العام المالي الجاري - الذي بدأ في يوليو وينتهي يونيو 2024 - بقيمة 26.3 مليار دولار بخلاف ديون قصيرة الأجل، وقالت إن قدرة الحكومة على تحمل الديون "تتدهور" مع استمرار نقص العملات الأجنبية، كما أن القدرة على تغطية خدمة الدين من خلال احتياطيات النقد الأجنبي قد تضعف كثيرا في غياب تدابير لتعزيز الاحتياطي.

وتشير بيانات البنك المركزي المصري، إلى ارتفاع احتياطيات النقد الأجنبي خلال سبتمبر الماضي إلى 34.970 مليار دولار مقابل 33.198 مليار دولار خلال سبتمبر من العام الماضي، لكنه لا يزال أقل من مستويات ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية حين سجل في يناير 2022 نحو 40.980 مليار دولار.

ويتوقع جنينة، أن يكون هناك مفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد، على زيادة قيمة القرض لأكثر من 3 مليار دولار، وزيادة التدفقات من الخليج لتمويل تحرير سعر الصرف دون انفلات مع ضغوط الطلب المتراكمة.

"وده هيساعد مصر تسدد للصندوق خلال السنة الجاية في حدود 5.2 مليار دولار (مستحقات مصر للصندوق خلال الفترة من يناير لديسمبر 2024)  كده هيبقى عندنا ملاءة مالية أعلى أننا نستلف تاني، هنبقى خفضنا قروض الصندوق بالربع أو التلت تقريبا، وأعتقد هتكون دي المفاجأة المنتظر الإعلان عنها بعد إتمام الانتخابات الرئاسية،" بحسب جنينة.

لكنه يرى أن هذا - حال حدوثه - لن يجعل الصندوق مصدر التدفقات الدولارية بالأساس لكنه سيساعد ويقول جنينة "الأهم منه (الصندوق) هو صفقات بيع الأصول التي تقوم بها مصر حاليا إضافة لمقايضة العملات المحلية".

جمعت مصر خلال الربع الأول من العام المالي الجاري (في الفترة بين يوليو وسبتمبر) نحو 2.5 مليار دولار من صفقات ضمن برنامج طروحات حكومي يهدف لخصخصة شركات وأصول تابعة للدولة، وفقا لتصريحات محمد معيط وزير المالية، كما تم تحديد شركات مؤهلة للطرح خلال الفترة من أكتوبر 2023 حتى يونيو 2024 بقيمة تقديرية تبلغ 4 مليار دولار.

فيما يشير جنينة إلى أنه بالنظر لاحتياجات مصر التمويلية في حدود 20 مليار دولار يتم توفير نصفهم تقريبا من الاستثمار الأجنبي المباشر، فإن الحكومة بحاجة إلى "تخارج من أصول بين 5-7 مليار دولار وستتسارع مع التوصل للمراجعتين".

ووفقا لتصريحات لمعيط، تسعى مصر لجمع ما يقارب من مليار دولار من خلال طرح سندات ساموراي وباندا قبل نهاية العام الجاري.

ورغم المخاطر المحيطة بالاقتصاد والتي دفعت وكالة موديز لخفض تصنيف مصر الائتماني من B3 إلى Caa1، لا يتوقع جنينة أن يؤثر ذلك على وصول مصر لسوق السندات الدولي لأن الفرق بين التصنيفين ليس كبير وإن كان أي طرح قريب بالدولار ستكون تكلفته مرتفعة "لما نوقع مع الصندوق ممكن نرجع تاني لسندات اليوروبوندز، ممكن على نصف العام المقبل".

و يرجح جنينة أن تتمكن الحكومة من "جمع ما بين 10 إلى 12 مليار دولار خلال الستة شهور المقبلة".

ماذا عن التضخم وأسعار الفائدة؟

كان لخفض العملة المحلية خلال العام الماضي في مصر أثر كبير على التضخم، مع زيادة فاتورة استيراد المحروقات والقمح - التي تعد مصر أكبر مستورديه عالميا - إضافة لمستلزمات الإنتاج.

 ووصل معدل التضخم في المدن المصرية خلال سبتمبر الماضي إلى 38% وهو ما يزيد توقعات أن يؤدي أي خفض جديد للجنيه لضغوط تضخمية تزيد أعباء المواطنين، وهو ما دفع الحكومة لإقرار إجراءات حماية اجتماعية تضمنت رفع الحد الأدنى للأجور.  ومن المرجح أن يدفع معدلات التضخم الحالية المركزي المصري لرفع الفائدة بحلول نهاية العام.

وبحسب الخبير الاقتصادي المصري مدحت نافع "هذا التضخم فيه جانب كبير منه ناتج عن صدمات الطلب، فضلا عن طباعة البنكنوت ونسبة السيولة الأعلى بكثير في معدل نموها من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي (وهو معدل النمو دون احتساب عامل التضخم)، هذا يجعلنا نقول عندنا صدمات في الطلب تحتاج إلى اتخاذ قرارات تشديد نقدي إضافية وهو ما لم يحدث في الفترة الأخيرة".

وقد ثبت المركزي المصري، أسعار الفائدة في سبتمبر للمرة الرابعة خلال العام الجاري والذي شهد رفع بواقع 3% (2% في مارس و1% في أغسطس). 

ويتوقع هاني جنينة، أن تشهد أسعار الفائدة في مصر قفزات كبيرة قبل نهاية العام.

"أعتقد 21 ديسمبر ده  (موعد الاجتماع الأخير للمركزي المصري في 2023) رفع الفائدة لن يكون مسبوق، أقصى رفع يومي في اجتماع واحد كان 3%. أعتقد المرادي هنشوف فوق الـ 3%، يعني ممكن نشوف 5% أو 7% أو تصل إلى 10%.. ممكن بالتوازي معاها يصدر شهادات (من قبل بنوك مصرية كما حدث سابقا) بعائد مرتفع جدا لمدة سنة".

(إعداد: شيماء حفظي، تحرير: ياسمين صالح، للتواصل: zawya.arabic@lseg.com)

#تحليلمطول

لقراءة الموضوع على أيكون، أضغط هنا

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا