PHOTO


تشهد البنية التي تدعم أسواق رأس المال والتي تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا تحول يقوده حاليا بند يتصدر جداول أعمال صناع القرار في هذا المجال خلال هذه الفترة وهو:
هل ينبغي الإبقاء على الأنظمة التقليدية المعتمدة على الخوادم المحلية، أم الانتقال إلى النماذج السحابية؟
وقد قدمنا في مقال سابق مزايا وتحديات كلا النموذجين + الوضع العالمي. ونتحدث في هذا المقال عن الوضع في المنطقة العربية.
نظرة سريعة على الوضع الحالي
يمثل العالم العربي مجموعة متنوعة ومتغيرة من الأنظمة المالية، تتراوح بين بورصات متقدمة في دول مجلس التعاون الخليجي وأسواق ناشئة أو في طور النمو في شمال إفريقيا. وبرغم أن التحول الرقمي بات قيد التنفيذ في العديد من هذه الأسواق، إلا أن تبني البنية التحتية السحابية في أسواق رأس المال لا يزال متفاوت، ويتأثر بمجموعة من العوامل الهيكلية، التنظيمية، الجيوسياسية والمؤسسية.
يقدم هذا الجزء من التقرير نظرة شاملة حول مستوى الجاهزية السحابية في البورصات العربية، ويستعرض أبرز التحديات التي تحول دون الانتشار الواسع للحوسبة السحابية ضمن البنية التحتية للأسواق العربية من خلال مسح قام به اتحاد أسواق المال العربية شمل14 بورصة:


يعكس هذا التوزيع الحذر الذي تتبناه الأسواق العربية في تعاملها مع التحول نحو السحابة.
ففي حين تستكشف أسواق مجلس التعاون الخليجي، مثل سوق أبو ظبي للأوراق المالية وتداول السعودية، نماذج هجينة تجمع بين البنى المحلية والحلول السحابية، تبقى الأسواق في شمال إفريقيا مثل البورصة المصرية متجذرة في الأنظمة المحلية، إلى جانب بعض الأسواق الخليجية الأخرى مثل بورصة قطر وبورصة الكويت.
ويرجع استمرار الاعتماد على الأنظمة المحلية إلى مزيج من الاعتبارات التقنية والتنظيمية. إذ تشير العديد من البورصات إلى أن بنيتها التحتية تطورت على مدى سنوات حول أنظمة داخلية مترابطة بشكل وثيق مع أطر الامتثال المحلية، ما يجعل عملية الانتقال إلى السحابة ليست مسألة تقنية فحسب، بل ثقافية ومؤسساتية أيضاً.
تشير البيانات إلى أن الأسواق العربية ليست بعد في موقع جاهز للتحول نحو السحابة. فهي ما زالت تفضل الاستقرار والقدرة على التنبؤ والامتثال على حساب المرونة والسرعة. ويعكس هذا النهج المحافظ الأهمية النظامية للبورصات، حيث تُعد الموثوقية أولوية تفوق التجربة.
ومع ذلك، من المرجح أن يؤدي التبني التدريجي للنماذج الهجينة، خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، إلى إنشاء نماذج تطبيقية يمكن أن تراقبها بقية الأسواق في المنطقة قبل الشروع في اعتماد أوسع.
نماذج السحابة المستخدمة
حيثما وُجد اعتماد للسحابة، فإنه لا يزال جزئي ومحدود في نطاق الأعباء التشغيلية غير الأساسية.


تشير هذه البيانات إلى أن البورصات العربية تتبع نهج تدريجي في اعتماد السحابة.
فالنماذج العامة والهجينة تسمح بتحقيق مكاسب في الكفاءة مع الحفاظ على حماية الأنظمة الأساسية. كما أن هذا الأسلوب الانتقائي يمنح البورصات فرصة لاكتساب خبرة عملية في التعامل مع السحابة مع الحد من المخاطر النظامية. ومع مرور الوقت، قد تسهم هذه الخطوات الأولى في تعزيز الثقة المؤسسية وتهيئة الطريق لتوسيع استخدام السحابة في الجوانب الأقل حساسية من البنية التحتية للأسواق.
دوافع تفضيل الخوادم المحلية
أظهرت إجابات المسح أن هناك دوافع هيكلية وتنظيمية واضحة وراء استمرار الاعتماد على الخوادم المحلية.


تظهر هذه الأسباب تمسك مؤسساتي بالدفاع عن السيطرة الكاملة على البيانات والبنية التحتية الأساسية. وتبرز سيادة البيانات والمخاوف الأمنية كعوامل رئيسية خاصة في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تفرض التشريعات الوطنية الخاصة بإقامة البيانات قيود واضحة على استخدام السحابة في الأنظمة الحيوية.
دوافع اعتماد السحابة
في المقابل، هناك دوافع واضحة تشجع على التوجه نحو السحابة، حتى لدى البورصات التي لا تزال تعتمد على الأنظمة المحلية.


توضح هذه النتائج أن السحابة تعتبر وسيلة لتعزيز الكفاءة والمرونة التشغيلية، وليست مجرد أداة لتقليص النفقات. كما تعكس تركيز بعض البورصات، مثل بورصة البحرين، على التعافي من الكوارث، واهتمام سوق أبوظبي بقدرات التوسع، توجه عملي يستجيب لاحتياجات تشغيلية واقعية.
تشير هذه المعطيات إلى أن البورصات العربية لا ترفض السحابة من حيث المبدأ، بل تميز بين المجالات التي تضيف فيها السحابة قيمة حقيقية وتلك التي قد تشكل فيها خطر تنظيمي أو أمني.
الوضع التنظيمي وإدارة المخاطر
عند سؤال البورصات عن مستوى القلق من المخاطر المرتبطة بالسحابة (على مقياس من 1 إلى 5)، جاءت النتائج مرتفعة للغاية.


تظهر هذه المعدلات المرتفعة أن الثقة في الحلول السحابية ما زالت محدودة.
فغياب الأطر الواضحة لحوكمة البيانات ومعايير الامتثال المحلية يجعل المؤسسات مترددة. ويخلق هذا الوضع تحدي وفرصة في الوقت نفسه. فإذا تولت الهيئات التنظيمية الإقليمية قيادة عملية وضع القواعد الواضحة، يمكنها تمكين الاعتماد على السحابة مع الحفاظ على السيطرة. ومن ثم، فإن الحل لا يكمن فقط في الضمانات التقنية التي يقدمها مزودو الخدمات، بل في بناء الثقة المؤسساتية من خلال الأطر التنظيمية.
اعتبارات الأداء والتكلفة
استكشف المسح أيضاً كيفية تقييم البورصات العربية لعوامل الأداء والتكلفة عند المقارنة بين السحابة والخوادم المحلية.


توضح هذه النتائج أن البورصات العربية تنظر إلى اعتماد السحابة من زاويتين، تقنية ومالية في آن واحد.
فبينما تستفيد أسواق الخليج من مرونة السحابة للأعباء الثانوية، إلا أن غياب الاستقرار في التكاليف يمثل عائق. أما أسواق شمال إفريقيا، فتنجذب إلى نموذج النفقات التشغيلية لكنه يثير لديها قلق من الاعتماد على مزودين خارجيين.
ومن ثم، فإن الموازنة بين الأداء والتكلفة ترتبط ارتباط وثيق بالسيادة والتنظيم. إذ لا يمكن للأسواق أن تضحي بالأداء في أنظمة التداول، ولا أن تخاطر بتقلب التكلفة في بيئات ذات موارد محدودة. وبالتالي، يتطلب التبني الناجح للسحابة نماذج تسعير شفافة وضمانات أداء تتناسب مع طبيعة عمل أسواق المال.
الخطط المستقبلية (من 12 إلى 24 شهر)
تظل خطط التبني المستقبلية حذرة وتدريجية.


توضح هذه الفوارق أن بعض البورصات تفكر في توسيع محدود لاستخدام السحابة، بينما لا تتوقع أخرى أي تغيير قريب، مما يعكس الحذر السائد في المنطقة.
تُظهر هذه الخطط أن البورصات العربية تنظر إلى السحابة كخيار متوسط إلى طويل الأجل وليس كتحول فوري. كما يعكس التباين بين الأسواق أن مسار التبني سيكون غير متجانس، إذ ستقود بعض الأسواق خطوات التجريب بينما تترقب أخرى النتائج قبل التحرك. ومن المرجح أن تسلك المنطقة مسار مزدوج السرعة، حيث تمهد الأسواق المبتكرة الطريق أمام بقية الأسواق بمجرد ترسيخ الثقة والوضوح التنظيمي.
الأنشطة المرجح بقاؤها على الأنظمة المحلية
أجمع المشاركون في المسح على أن الأنظمة الحساسة ستبقى على الخوادم المحلية.


يعكس هذا الإجماع أهمية هذه الأنظمة، حيث يُعد أي تأخير أو توقف أو اعتماد خارجي أمر غير مقبول.
يظهر هذا أيضا أن البورصات العربية تعتبر أن السحابة يمكن أن تخدم الوظائف المساندة، لكن المحركات الأساسية للتداول والتسوية تظل خطوط حمراء. ولذلك، من المرجح أن تظل النماذج الهجينة هي السائدة، حيث تُحفظ الأنظمة الحيوية محلياً وتُنقل الأنظمة المساندة تدريجياً إلى السحابة. وحتى يتمكن مزودو الخدمات من تقديم حلول تضمن الأداء والامتثال، لن تتغير هذه الحدود بسهولة.
ماذا تطلب البورصات والجهات التنظيمية العربية من السحابة؟
- وضع معايير للسحابة السيادية: على الجهات التنظيمية العربية أن تضع متطلبات واضحة لصياغة البيانات، والتشفير، وآليات المراجعة.
- البدء بترحيل الأنشطة غير الأساسية: مثل أنظمة التعافي من الكوارث.
- اعتماد البنى الهجينة: الإبقاء على أنظمة التداول محلياً مع نقل الخدمات المساندة إلى السحابة يحقق توازن بين المخاطر والابتكار.
- الاستثمار في الجاهزية المؤسساتية: يشمل ذلك التدريب، التخطيط المسبق لعمليات الانتقال، وإدارة المخاطر التشغيلية.
- تعزيز التعاون الإقليمي: يمكن لإطار عربي موحد أن يسهل التفاوض مع مزودي الخدمات العالميين ويضع أسس ثابتة للامتثال.
يتطلب المسار الاستراتيجي للمضي قدماً توازن دقيق بين الابتكار والاستقرار النظامي. فالبورصات العربية لا تستطيع تحمل اضطراب الأنظمة الأساسية، لكنها أيضاً لا يمكنها تجاهل الاتجاه العالمي نحو البنى السحابية. والحل يكمن في نهج مرحلي ومدروس يستند إلى إرشاد تنظيمي قوي وتعاون إقليمي فعال.
وإذا تحقق هذا التوازن، فستتمكن أسواق المال العربية من التحديث دون المساس بصلابتها، مما يعزز قدرتها التنافسية في بيئة مالية رقمية متسارعة.
الملخص
يؤكد المسح أن المنطقة العربية لا تزال في مرحلة انتقالية بين البنى التحتية التقليدية والاعتماد الجزئي على النماذج السحابية الهجينة.
ففي حين تختبر بورصات دول مجلس التعاون الخليجي الحلول السحابية العامة والهجينة بحذر، لا تزال بورصات شمال إفريقيا متمسكة بالأنظمة المحلية نتيجة القيود التنظيمية ومخاوف السيادة وضعف البنى التحتية التقنية.
ومع ذلك، لا يعني هذا رفض الحوسبة السحابية تماماً، إذ يجري تبنيها تدريجياً في المجالات غير الحرجة مثل التحليلات، والبوابات المؤسسية، وخطط التعافي من الكوارث. وتبرز دوافع مثل تحسين التكلفة التشغيلية وزيادة المرونة والاستدامة كعوامل جذب رئيسية لبعض الأسواق العربية. في المقابل، تبقى بورصات مثل مصر، قطر والكويت ملتزمة بالبنية المحلية بالكامل.
توضح هذه الازدواجية أن الأسواق العربية تقف عند نقطة تحول: فالأنظمة التقليدية ما زالت مهيمنة، لكن خطوات أولى نحو التكامل السحابي بدأت بالظهور.
كما تكشف النتائج عن فجوة إقليمية واضحة، حيث تميل أسواق الخليج إلى التبني التدريجي المدعوم بموارد أقوى وتجارب تنظيمية أكثر مرونة، بينما تبقى أسواق شمال إفريقيا أكثر تحفظ بفعل القيود المؤسساتية وضعف البنية التحتية الرقمية والتقنية.
وهذا يشير إلى أن المنطقة ستشهد مسار متدرج ومتعدد السرعات، تقوده الأسواق المتقدمة، فيما تراقب الأسواق الأخرى التجربة قبل أن تنخرط فيها بثقة أكبر. وفي النهاية، سيتحدد مسار التطور بقدرة الجهات التنظيمية ومشغلي الأسواق على بناء الثقة في السحابة مع الحفاظ على استقرار الأنظمة الأساسية.
التوصيات
بالنسبة إلى البورصات، ولاسيما تلك العاملة في المنطقة العربية، فإن مسار تحديث البنية التحتية يجب أن يكون استراتيجي، مدروس ومرحلي. وفيما يلي مجموعة من التوصيات العملية لصناع القرار والجهات التنظيمية ومزودي الخدمات السحابية.
اعتماد استراتيجية بنية تحتية هجينة: بدلاً من الالتزام الكامل بنموذج واحد، سواء السحابة أو الخوادم المحلية، من الأنسب أن تبدأ البورصات بهيكلية هجينة. يمكن أن تبقى محركات التداول وأنظمة المطابقة الأساسية على الخوادم المحلية للحفاظ على سرعة استجابة وتحكم كامل، في حين يمكن نقل الأنشطة الثانوية مثل التحليلات، المراقبة والتقارير إلى السحابة.
ويتيح هذا النهج الفصل بين المخاطر وتحسين الأداء بدون المساس بالاستقرار التشغيلي.
التعاون مع الجهات التنظيمية: ينبغي على البورصات العمل بشكل استباقي مع المنظمين لتشكيل أطر واضحة لحوكمة الخدمات السحابية. يشمل ذلك تطوير معايير لاتفاقيات مستوى الخدمة، إجراءات الإبلاغ عن الحوادث، متطلبات الإقامة المحلية للبيانات، حقوق التدقيق، وإدارة المخاطر. كما يمكن الاستفادة من التجارب الدولية لإنشاء بيئات تجريبية أو مختبرات تنظيمية تسمح بالابتكار تحت إشراف محدد.
الاستثمار في تطوير الكوادر البشرية: يتطلب تشغيل بنية مالية حديثة فئة جديدة من المتخصصين، تشمل مهندسي السحابة، مسؤولي امتثال البيانات، وخبراء الذكاء الاصطناعي. لذلك، من المهم أن تطلق البورصات شراكات مع الجامعات ومراكز التدريب وجهات الاعتماد لبناء قدرات داخلية قادرة على قيادة التحول الرقمي بأمان وكفاءة.
تشجيع التشغيل البيني السحابي على المستوى الإقليمي: تشكل دول مجلس التعاون الخليجي وبقية المنطقة العربية بيئة مناسبة لبناء مكونات بنية تحتية مشتركة مثل محركات تقارير الاستدامة، مستودعات بيانات اعرف عميلك (KYC)، ومنصات المراقبة العابرة للحدود. يساهم هذا النموذج في تقليل الازدواجية، تعزيز الأمان عبر معايير موحدة، ودعم التكامل بين أسواق رأس المال العربية.
تطوير خطط الخروج من السحابة وإدارة المخاطر: لتفادي الاعتماد المفرط على مزود واحد، على البورصات وضع استراتيجيات خروج واضحة تشمل بروتوكولات لقابلية نقل البيانات، واجهات برمجة تطبيقات محايدة، واتفاقيات ضمان للخدمات الحرجة. كما يجب تعزيز المرونة التشغيلية في كل طبقة من طبقات البنية التحتية لضمان استمرارية الأعمال في حال أي خلل أو تغيير في سياسات المزودين.
(إعداد: فادي قانصو، الأمين العام المساعد ومدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية، خبير اقتصادي وأستاذ جامعي، تحرير: ياسمين صالح، مراجعة قبل النشر: شيماء حفظي)
#تحليلسريع
للاشتراك في تقريرنا الأسبوعي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا








