تراهن مصر على إتمام صفقات بيع حصص في شركات وأصول بشكل عاجل، ضمن برنامج طروحات حكومية طموح لإنقاذ اقتصادها وضمان تدفقات دولارية تمكنها من سداد التزاماتها.

لكن هذه الصفقات قد تتعرض لضغوط تأجيل والسبب يكمن في كلمتين: "سعر الصرف".

وهو السعر الحائر حاليا بين الحكومة المصرية المتخوفة من حدوث صدمة سعرية قبيل انتخابات رئاسية متوقع حدوثها أوائل العام القادم وسيتم فتح باب الترشح لها في أكتوبر 2023 وصندوق النقد الدولي الذي دائما ما يطالب بإجراءات تقشفية وتعويم كامل للعملة المحلية كشرط أساسي للمساعدة.

كلام السيسي مقابل مطالب صندوق النقد

تعاني مصر منذ أكثر من عام من أزمة سيولة دولارية طاحنة تسببت فيها هروب الأموال الساخنة التي تعتمد عليها البلد بشكل كبير بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وزيادة أسعار الفائدة عالميا.

 والوضع الآن أصعب مع تأخر وصول الشريحة الثانية من قرض بقيمة 3 مليار دولار مقدم من صندوق النقد والتي قد تتأخر أكثر بعد تلميح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هذا الشهر بعدم نية البلاد تعويم العملة مجددا قريبا.

وتراجع سعر الجنيه المصري بنحو %50 منذ مارس 2022 بعدما خفضت الحكومة سعر الصرف الرسمي للعملة المحلية أمام الدولار ثلاث مرات ليقارب حاليا الـ 31 جنيه للدولار، في حين يتداول الدولار في السوق الموازي مقابل 38 إلى 39 جنيه.

وفي أحدث المؤتمرات الصحفية لصندوق النقد في المنطقة والتي استضافته دبي مايو الماضي شدد  جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق وقتها على أهمية التزام مصر بسياسة سعر صرف مرن مع جذب الاستثمارات، وليس أحد الأمرين فقط.

وقال أزعور: "لما يكون لديك المزيج الصحيح من السياسات، حينها لن تواجه هذا الوضع بشأن السيولة والعملة الصعبة.. لأن حينها سيستقر سعر الصرف وستكون السيولة متاحة في السوق".

وقد أكدت على كلام أزعور مديرة الصندوق كريستالينا غورغييفا في حوار مع بلومبرغ الشرق هذا الأسبوع، مشبهة استخدام احتياطات مصر الدولارية لدعم الجنيه "كسكب الماء بوعاء مثقوب".

 وفي حديثه الشهير  في مؤتمر للشباب عن سعر الصرف هذا الشهر قال السيسي - الذي من المتوقع أن يخوض الانتخابات الرئاسية القادمة ويكسبها - أنه "عندما يتعرض الموضوع لأمن مصر القومي وأن الشعب المصري يضيع فيها لا لا لا لا...لا مانقدرش حتى لو كان الكلام ده يتعارض مع".

وبالرغم أن السيسي لم يكمل جملته ليوضح من يقصد بحديثه، قابل الحضور الجملة بالتصفيق، فيما قال مقدم الحدث بعد صمت السيسي ضاحكا: "كلنا فهمنا يا سيادة الريس" في إشارة إلى أن السيسي يقصد بكلامه صندوق النقد.

دول الخليج

في بيان صندوق النقد الدولي ديسمبر الماضي والذي وافق فيه مجلسه التنفيذي على القرض قال إن القرض سيشجع إتاحة تمويلات إضافية لمصر بقيمة 14 مليار دولار من شركاء دوليين و إقليميين منهم دول مجلس التعاون الخليجي. وهو ما لم يحدث حتى الآن.

وقد شهدت الشهور الماضية تغييرات ملحوظة في تصريحات قادة الدول الخليجية بشأن المساعدات التي يقدمونها للدول النامية مثل مصر. ففي يناير الماضي قال وزير المالية السعودي محمد الجدعان - متحدثا من مؤتمر دافوس الاقتصادي الشهير - إن المملكة غيرت من سياستها المالية فيما يتعلق بالمنح و الودائع الدولية.

" كنا نمنح أو نوفر المنح المباشرة والإيداعات من دون أي ارتباطات، لكن بدأنا نغير ذلك ونعمل مع مؤسسات متعددة ونقول يجب أن نرى إصلاحات".

وفي مقابلة مع بلومبرغ مايو الماضي قال وزير المالية القطري علي الكواري، إن بلاده ملتزمة بتعهدها بمساعدة مصر ولكن على شكل استثمارات وليس منح.

وقال: "مع مصر، هو أمر تجاري بحت. مجرد إعطاء المنح والأعمال الخيرية ليس هو الوضع الحالي لقطر.. الأمر أصبح صعب جدا حين يكون على شكل منح، كاش وشيكات".

وأودعت عدة دول خليجية مليارات الدولارات في البنك المركزي المصري العام الماضي وكذلك استثمرت عدة شركات وصناديق سيادية خليجية في عدة شركات مصرية.

ولكن زخم الاستثمارات الخليجية قل هذا العام والمنح شبه انعدمت.

وبحسب مصدر على صلة بصفقات البيع فإن الحكومة تعمل حاليا على بيع حصة إضافية من شركة "إي فاينانس" للمدفوعات الالكترونية، و"البنك العربي الإفريقي" و"المصرف المتحد"، لكن الأمور لا تسير بأفضل حال خصوصا مع المستثمرين الخليجيين بسبب اختلاف سعر الصرف.

وأضاف المصدر أن المستثمرين الخليجيين ينتظرون تحريك سعر الصرف في ظل الفجوة بين السعرين الرسمي والسوق الموازي، قبل الاتفاق بشكل نهائي على الصفقات والتقييم.

"لفينا على الخليج مفيش حد كان راضى (موافق) يشتري أسهم المصرية للاتصالات وجالها محليين".

وباعت الحكومة المصرية الشهر الماضي حصة تصل إلى 10% من الشركة المصرية للاتصالات - التي لا تزال تمتلك معظم أسهمها - لكن غالبية الصفقة ذهبت لمستثمرين محليين، مقابل 3.75 مليار جنيه أو ما يعادل 121.4 مليون دولار بالسعر الرسمي.

البيع مقابل التعويم

"بالطبع، تريد السلطات تجنب المزيد من الانخفاض الحاد في سعر الجنيه المصري الرسمي، ولكن ذلك يعرض برنامج صندوق النقد الدولي للمخاطر،" وفقا لما قالته ياسمين غوزي، محللة أولى في ستاندرد آند بورز جلوبال ماركت انتليجينس لزاوية عربي، عبر الايميل.

وترى غوزي، أن "فوائد إجراء خفض إضافي في قيمة العملة من حيث إعادة التوازن الاقتصادي والتجاري غير واضحة حاليا ما لم تضمن جذب تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الضرورية من دول مجلس التعاون الخليجي".

وأضافت أن أية مساعي لاعتماد المرونة في سوق الصرف في غياب تلك التدفقات للبلد الذي يعاني من تضخم مرتفع، قد يؤدي إما لارتفاع كبير في سوق النقد الأجنبي، أو لا يقود بالضرورة للتخلص من السوق الموازي.

وسجل معدل التضخم في المدن المصرية خلال مايو الماضي  ارتفاع بـ 32.7% مدفوعا بزيادة أسعار الطعام والمشروبات بنحو 60% على أساس سنوي. وتعتمد مصر بشكل أساسي على الاستيراد لسد احتياجاتها الأساسية وتعتبر أكبر مستورد للقمح في العالم ولذلك تأثرت بشكل كبير بالوضع الدائر بين روسيا وأوكرانيا كونهما من أكبر مصدري الحبوب والقمح لمصر.

ومع صعوبة خطوة خفض الجنيه تُطرح مبيعات الأصول كبديل قوي وسريع، حسبما يرى علي متولي، محلل اقتصادي متخصص في اقتصاديات المنطقة ومقيم في لندن.

وفي حديثه لزاوية عربي قال متولي: "أعتقد مصر تقدر تتفادى مطلب التحول لنظام مرن دلوقتي، وبالتالي المطلب اللي هيكون مهم تحقيقه الآن لضمان نجاح المراجعة الأولى (لقرض صندوق النقد والتي كانت مقررة مارس الماضي لكن تم تأجيلها) هو بيع حصص الدولة في الأصول".

ويرى هاني جنينة، المحلل الاقتصادي والمحاضر بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن الحكومة ستلجأ لتوفير دولارات من خلال تسريع صفقات الاستحواذ لتقليل الفجوة السعرية، وزيادة الحصيلة الدولارية بما يمكن من خفض الجنيه دون أن ينفلت سعر الدولار لاحقا.

وقدر غولدمان ساكس، في تقرير صادر هذا الشهر أن مصر بحاجة لتوفير موارد تتخطى 5 مليار دولار من بيع الأصول، حتى تتمكن من تطبيق سعر صرف مرن وتوحيد سوق العملة.

وكان رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قد قال أبريل الماضي إن الحكومة تستهدف تنفيذ طروحات بقيمة 2 مليار دولار قبل نهاية يونيو الحالي.

ماذا باعت مصر حتى الآن؟

أعلنت مصر فبراير الماضي عن خطتها الطموحة لبيع حصص تمتلكها  في أكثر من 32 شركة لتوفير التمويل الذي تحتاجه وتعيد عجلة الاستثمارات وزيادة مساهمة القطاع الخاص.

 وفي خطوة لإظهار الجدية في الأمر مع اقتراب انتهاء العام المالي المصري نهاية يونيو الحالي، عينت مصر هذا الشهر مؤسسة التمويل الدولية (IFC) - التابعة للبنك الدولي - لتكون المستشار الاستراتيجي للحكومة في برنامج الطروحات.

ومن ال32 شركة،  لم تعلن الحكومة سوى عن بيع حصة 55% في شركة باكين للدهانات ضمن صفقة شراء نحو 80% من الأسهم لصالح شركة الأصباغ الوطنية الإماراتية بقيمة إجمالية بلغت 770.5 مليون جنيه ( 24.9 مليون دولار) وتم الإعلان عنها مايو الماضي. فيما تترقب البورصة المصرية إدراج أسهم شركة طاقة عربية الخاصة الشهر القادم، والتي تعد أول وافد هذا العام لسوق المال.

وقال المصدر المطلع على صفقات البيع إن هناك اتفاقات شبه نهائية لاستحواذ شركة  اتصالات قطرية على حصة في فودافون مصر من الحكومة لكن يبقى الاتفاق على سعر الدولار عند التنفيذ، وأضاف أن الصفقة "خلصت لكن باقي على تحديد سعر التنفيذ".

وتمتلك شركة المصرية للاتصالات الحكومية 45% من شركة فودافون مصر، وهما شركتان من 4 شركات تقدم خدمات الاتصالات في البلاد التي يتخطى عدد سكانها 100 مليون نسمة.

وتحدث مصدران آخران عن عرض قدم من صندوق سيادي تابع لإحدى الدول العربية لشراء حصص أغلبية في شركتي بورسعيد لتداول الحاويات والبضائع، ودمياط لتداول الحاويات والبضائع الحكوميتين وهما ضمن شركات برنامج الطروحات.

وأكد المصدران أن الصفقات الخاصة بشركتي بورسعيد ودمياط قاربتا على الانتهاء ويتوقع الإعلان عنهما قريبا. وقيمت شركة العربي الإفريقي لتداول الأوراق المالية في تقرير لها شركة بورسعيد ب9.7 مليار جنيه أو نحو 313.9 مليون دولار ودمياط ب 14.3 مليار جنيه أو نحو 462.8 مليون دولار.

وقال المصدران أن صفقة ثالثة تتعلق بالاستحواذ على أحد البنوك الحكومية "قيد الاتمام".

وبحسب المصدرين فإن صفقات الحاويات وأحد البنوك بالإضافة لصفقات استحواذ أخرى فى مجال العقارات قد تمنح مصر ما يقرب من 3.5 مليار دولار.

ما العمل إذا لم تتم الصفقات أو تعطلت؟

بينما تعد الصفقات هي مخرج مصر من التعويم، لكن تنفيذها مرهون بالتوصل لاتفاق مع المشترين حول تسعير سعر الصرف.

وفي حال لم تتوصل الحكومة مع المستثمرين لاتفاق حول تسعير الدولار دون خفض الجنيه، فإنه من المتوقع أن يتم تأجيل الصفقات، ما يتطلب البحث عن بدائل.

"ممكن طبعا تتأجل إلا لو جالنا سعر كويس،" بحسب جنينة، الذي توقع أن تلجأ مصر للاقتراض من دول أخرى مثل الصين والهند، وهي دول تتبنى نظام اقتصادي مختلف عن صندوق النقد.

وانضمت مصر مطلع العام الجاري لبنك التنمية الجديد التابع لتجمع بريكس (تجمع اقتصادي سياسي أسسه الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا) الذي يقدم تمويلات للدول الأعضاء ويُرى كبديل لمؤسسات التمويل الدولية كصندوق النقد.

واستبعد متولي أن تتوقف صفقات الأصول لأن مصر عليها التزام ببيع الحصص، "هيكون في مخاطرة لو مكملتش في الاتفاق، لكن في السيناريو التشاؤمي لو وقفت يبقى أعتقد هتحتاج تصدر سندات دولية لكن تكلفتها هتكون عالية، أو هتحتاج تعويم الجنيه وليس خفضه حاجة بسيطة".

بينما ربطت غوزي، إجراء تعديل محتمل في سعر الصرف بتطور برنامج الطروحات.

"ما زلنا نضع في الحسبان، تعديل رابع للعملة في الربع الأخير من عام 2023، لكن ذلك يعتمد كثيرا على أداء برنامج بيع الأصول في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة".

 

(إعداد: شيماء حفظي وأحمد حسن، تحرير: ياسمين صالح، للتواصل zawya.arabic@lseg.com)

#تحليلمطول

لقراءة الموضوع على أيكون، أضغط هنا

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا