تعتبر الشفافية والمحاسبة الجنائية من الأسس الرئيسية لأي نظام مالي صحي. في هذا السياق، تم تكليف شركة "ألفاريز آند مارسال" المتخصصة في استشارات إعادة الهيكلة بإجراء تدقيق في حسابات مصرف لبنان المركزي، بهدف تقديم صورة واضحة وشاملة للوضع المالي للبنان، وتحديد الخطوات التي يمكن اتخاذها لتحقيق الاستقرار المالي بالبلد.

مضت أكثر من ستة أشهر على إصدار تقرير الشركة الذي حمَّل الدولة اللبنانية مسؤولية الفجوة المالية الضخمة التي بلغت أكثر من 70 مليار دولار. ومع ذلك، لم تتجرأ الحكومة حتى الآن على مناقشة ذلك التقرير واتخاذ إجراءات بشأن ما جاء فيه، بل تجاهلته على الرغم من أنها هي التي كلفت شركة ألفاريز بإجراء التدقيق.

يثير هذا الأمر تساؤلات حول الهدف من هذه الخطوة إذا كانت الحكومة لن تأخذ نتائجها بعين الاعتبار.

تم طلب التقرير في ظل أزمة مالية حادة يواجهها لبنان، حيث تعاني الدولة من نقص في السيولة، وتضخم مرتفع، وديون عامة ضخمة. كان الأمل أن يكشف التقرير عن أي ممارسات غير قانونية أو غير أخلاقية قد تكون ساهمت في هذه الأزمة، وأن يوفر بعض الإرشادات حول سبل تحقيق الاستقرار المالي في المستقبل. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة اللبنانية لم تستغل تلك الفرصة رغم حصولها على معلومات مهمة من تقرير التدقيق الجنائي.

يُعتبر التقرير صندوق أسود كشف عن السياسات المالية والمنظومة الإدارية التي أدارت هذه الأزمة المالية الهائلة.

التقرير، الذي يتألف من 332 صفحة، أظهر تدهور سريع في الوضع المالي لمصرف لبنان في الفترة بين عامي 2015 و2020، مع عدم ظهور ذلك التدهور في الميزانية العمومية، ما سمح بالمبالغة في الأصول والأرباح وتجاهل الخسائر.

ويشير التقرير إلى أن الهندسات المالية (التقنية المبتكرة المستخدمة في العمليات المالية على مستوى الدولة) كانت مُكلفة، وأن سلطة محافظ مصرف لبنان السابق رياض سلامة لم تخضع لرقابة كافية. وأوصى التقرير باتخاذ إجراءات سريعة لتعزيز الحوكمة وتعزيز التدقيق لتجنب المخاطر المستقبلية نتيجة لسوء الإدارة.

وسلامة، الذي انتهت ولايته في 31 يوليو الماضي بعد نحو 30 عام قضاها في منصب محافظ مصرف لبنان، يخضع لتحقيقات في لبنان ودول أوروبية لشبهات الاختلاس وغسل الأموال والفساد، وهو مستهدف بعقوبات أمريكية وكندية وبريطانية. لكن سلامة ينفي تلك الاتهامات.

وأظهرت نتائج التدقيق الجنائي لشركة ألفاريز أن مصرف لبنان تكبد خسائر بلغت حوالي 51 مليار دولار حتى عام 2020، ساهمت فيها نفقات الدولة، بالإضافة إلى 16.5 مليار دولار اقترضتها الدولة من مصرف لبنان.

وإجماليا، تصل المطالبات على الدولة إلى حوالي 67.5 مليار دولار للفترة من 2010 إلى 2020، دون أن تشمل حسابات السنوات الثلاث الأخيرة التي شهدت تفاقم للخسائر، وهو ما  يبرز سوء الإدارة المالية والتضخم الهائل.

وكشف التقرير عن مجموعة من المخالفات المالية التي مثلت صدمة للرأي العام. تباينت هذه المخالفات بين استخدام معايير محاسبية غير تقليدية، وتلاعب في بيانات الدخل لتظهر أرباح وهمية، وتهرب من الشفافية في تقديم المعلومات المالية.

وتعكس الهندسة المالية المكلفة، التي بلغت 76 مليار دولار بنهاية 2020، استخدام غير مسؤول ومشبوه للأموال العامة. وأنطوت طريقة استخدامها على انعدام للشفافية ما أثار تساؤلات حول إدارة الأموال والالتزام بالمعايير المالية.

من جانب آخر، يُثار سؤال حول تضمين البيانات المالية الصادرة مؤخرا من مصرف لبنان لحجم الديون المتوجبة على الدولة للمصرف، فهل هو اعتراف بنتائج التقرير أم محاولة لنقل المسؤولية إلى الحكومة؟

في الختام، يبدو أن تجاهل الحكومة لنتائج التقرير والتنصل من المسؤولية قد يخلق مشاكل أكبر في المستقبل. لذا، يجب على الدولة التحلي بالشجاعة لمعالجة الأمور بشكل فعال والتصدي للتحديات المالية بشفافية.

ولن ينتج عن فشل الحكومة في الرد على هذا التقرير بإجراء حاسم سوى تعميق الأزمة الاقتصادية، مما سيؤدي إلى تآكل ثقة المواطنين بشكل أكبر ويدفع لبنان نحو مستقبل أكثر خطورة مما تعيشه البلاد بالفعل. وقد تشمل عواقب التقاعس عن اتخاذ إجراءات في هذا الشأن معاناة اقتصادية طويلة الأمد، واضطرابات اجتماعية، ونظرة قاتمة للأجيال القادمة.

يقف لبنان حاليا عند مفترق طرق، ومن الضروري أن تتخذ الحكومة إجراءات جريئة وشفافة، ليس فقط لإنقاذ الاقتصاد، ولكن لاستعادة الثقة في المؤسسات التي تحكم البلد. لقد حان الآن وقت المساءلة واتخاذ الإجراءات الحاسمة.

وفي ضوء هذه التشابكات المالية، يتوجب على لبنان الآن أن يوسع نطاق التدقيق الجنائي، ليتضمن تحقيق شامل لوزارة المالية، التي اقترضت في البداية هذه المبالغ الكبيرة من المصرف المركزي، وكذلك جميع الوزارات التي وجِهت إليها هذه الأموال، وتبرز في هذا السياق بوضوح وزارة الطاقة والمياه.

(إعداد: محمد طربيه، أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)  
 
(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)