PHOTO
شهد النظام المالي العالمي ظهور العملات المشفرة وعلى رأسها البيتكوين خلال العقد الأخير كفئة أصول جديدة ووسيلة للدفع خارج إطار المؤسسات المالية التقليدية. هذا التطور طرح تحديات وفرصاً في آن واحد للنظام المالي القائم، وأثار تساؤلات جدية في أروقة البنوك المركزية حول مستقبل السياسة النقدية ودورهم في عصر اللامركزية المالية. كما أن تقلبات سعر البيتكوين اليوم باتت عاملاً مؤثراً يراقبه المستثمرون وصناع القرار لفهم انعكاساته على الأسواق المالية والأنظمة المصرفية. في هذا القسم سنستعرض تأثير البيتكوين على النظام المصرفي التقليدي وعلى سياسات وأدوار البنوك المركزية.
أولاً: التهديد والتحدي للمفهوم التقليدي للنقود: تقوم فكرة البيتكوين على عدم الحاجة لطرف ثالث موثوق (كالبنك) للتأكد من صحة المعاملات. فشبكة البيتكوين ذاتها – عبر التقنية المعروفة بسلسلة الكتل – تتولى مهام التحقق والتسجيل بشكل موزع على آلاف الحواسيب حول العالم. هذا المفهوم ينطوي على تحدٍّ لنموذج البنوك التقليدية التي تقوم بالوساطة في المدفوعات والاحتفاظ بالودائع ومنح الائتمان. إذا استخدم الأفراد والشركات البيتكوين على نطاق واسع للدفع والادخار، فقد تتراجع أهمية البنوك التجارية كمؤسسات وسيطة. بالفعل، تحول جزء من التعاملات المالية خارج النظام المصرفي ظهر مع ازدهار منصات التداول الرقمية والمحافظ الإلكترونية التي تحتفظ بالعملات المشفرة للعملاء. لكن حتى الآن، هذا التحول ما زال محدوداً كنسبة من إجمالي المعاملات العالمية. فمثلاً في منطقة اليورو، أظهر مسح حديث للمركزي الأوروبي أن حوالي 9.7% من الأسر فقط لديها حيازات من الأصول المشفرة في 2024 (انخفض قليلاً من 2022)، وغالبية هذه الحيازات قيمتها صغيرة (أكثر من نصف المالكين أقل من 1000 يورو). أي أن التعرض العام للعملات المشفرة لا يزال منخفضاً نسبياً بالمقارنة بحجم الاقتصاد. وهذا ما يجعل المخاطر المباشرة على استقرار النظام المالي حالياً محدودة وفق تقييمات العديد من البنوك المركزية.
ثانياً: انخراط البنوك والمؤسسات التقليدية تدريجياً: رغم حذرها الأولي، بدأت المؤسسات المالية التقليدية تتعامل مع واقع العملات المشفرة بشكل براغماتي. فالعديد من البنوك الكبيرة قام بإنشاء أقسام متخصصة لخدمة عملائها الراغبين بالاستثمار في هذه الأصول، سواء عبر حفظ أصولهم (Custody) أو تسهيل تداولها. في أوروبا مثلاً، ارتفعت قيمة خدمات الحفظ التي تقدمها بعض البنوك الكبرى للأصول المشفرة إلى 4.7 مليار يورو في 2024 بعد أن كانت حوالي 400 مليون فقط في 2023 – وهذا مؤشر واضح على تنامي اهتمام المستثمرين المؤسساتيين والعملاء الأثرياء. كذلك بدأت بعض البنوك بتقديم منتجات استثمارية مرتبطة بالعملات المشفرة كالصناديق أو المشتقات، مع أن الحجم ما زال صغيراً (أقل من 17 مليار يورو إجمالاً في استثمارات الأوراق المالية المرتبطة بالأصول المشفرة في منطقة اليورو أواخر 2024، منها 20% فقط لدى القطاع المالي والباقي لدى الأفراد). ورغم أن البنوك الأوروبية مثلاً تحتفظ بمبالغ محدودة جداً من العملات المشفرة مباشرة (حوالي 1 مليون يورو فقط بشكل مباشر في 2024)، إلا أنها تزيد انخراطها بشكل غير مباشر من خلال خدمات ومنتجات للعملاء. هذا التدرج الحذر يعكس رغبة المؤسسات التقليدية في عدم تفويت الفرصة وفي الوقت نفسه إدارة المخاطر المرتبطة بهذه الأصول شديدة التقلب.
ثالثاً: التأثير على البنوك المركزية والسياسة النقدية: ربما يكون الأثر الأكبر للبيتكوين هو تحفيز البنوك المركزية على تطوير استراتيجيات جديدة والتفكير في إصدارات رقمية من عملاتها. فنجاح البيتكوين في استقطاب مدخرات وأموال بعض الأفراد دفع البنوك المركزية للتساؤل: ماذا لو انتشر استخدام عملة خاصة غير خاضعة لنا؟ هذا السيناريو قد يُضعف من فعالية أدوات السياسة النقدية التقليدية. على سبيل المثال، إذا فضّل عدد كبير من الناس ادخار أموالهم في البيتكوين بدلاً من العملات الوطنية، فإن قرارات البنوك المركزية بشأن أسعار الفائدة ستصبح أقل تأثيراً على سلوكهم الإنفاقي والاستثماري. كذلك يمكن أن يؤدي انتشار العملات المشفرة في اقتصاد ما إلى زيادة الدولرة أو بالأحرى “التشفير” – أي اعتماد المواطنين على نقود أجنبية أو مشفرة بدلاً من العملة المحلية – مما يقيّد قدرة البنك المركزي على تنفيذ سياسة نقدية مستقلة. وقد حذّر صندوق النقد الدولي من أن تبنّي العملات المشفرة كبديل واسع للنقود المحلية قد يقود إلى زعزعة الاستقرار المالي والاقتصادي خصوصاً في الدول الناشئة. ظهر مثال واقعي على ذلك عندما قررت السلفادور في 2021 جعل البيتكوين عملة قانونية إلى جانب الدولار؛ حيث أثار القرار انتقادات من جهات دولية (كصندوق النقد) بسبب مخاوف تتعلق بالاستقرار المالي والمخاطر على المستهلكين، فضلاً عن تعقيدات إدارة السياسة النقدية في بلد لا يصدر عملته الخاصة (السلفادور كانت بالفعل تعتمد الدولار الأمريكي قبل البيتكوين).
كذلك، وجود بديل نقدي غير تقليدي كالببيتكوين أثار مخاوف حول فقدان السيطرة على حركة رأس المال. في الأنظمة المالية التقليدية، تملك البنوك المركزية أدوات لمراقبة التحويلات عبر الحدود وفرض قيود عند الضرورة (لمنع هروب رأس المال أو غسيل الأموال مثلاً). لكن التعاملات بالبيتكوين – رغم أنها شفافة على البلوكشين – يصعب ربطها بهويات المستخدمين (إلا بتحقيقات معمقة)، ما يمنح درجة من حرية الحركة خارج النظام المصرفي. بعض البلدان التي تواجه عقوبات اقتصادية دولية رأت في العملات المشفرة وسيلة محتملة لتجاوز نظام العقوبات. على سبيل المثال، هناك تكهنات بأن بنوكاً مركزية في دول كإيران أو روسيا قد تفكر في الاحتفاظ بجزء من احتياطياتها بالعملات المشفرة لتقليل اعتمادها على الدولار والنظام المالي الخاضع لنفوذ الولايات المتحدة. ورغم أن معظم البنوك المركزية حول العالم تنفي حالياً إمكانية إدراج البيتكوين في احتياطياتها (بسبب التقلب العالي وعدم استقرار قيمته)، إلا أن مجرد طرح الموضوع للنقاش يمثل تغييراً عن نظرة اللامبالاة التامة التي كانت سائدة قبل سنوات قليلة. وفي هذا السياق كتب بعض الباحثين في فوربس أن البيتكوين قد يُعتبر جذاباً كأصل احتياطي لأنه لا يحمل مخاطر تخلف عن السداد (فهو أصل رقمي بحت غير مرتبط بأي التزام جهة مُصدرة) ولأنه مناع للعقوبات المالية كونه لا يمكن لأي دولة تجميده. ومع ذلك، تبقى هذه الأفكار نظرية إلى حد كبير حالياً، حيث لم يُعرف عن أي بنك مركزي رئيسي أنه اشترى البيتكوين كجزء من احتياطياته الرسمية حتى الآن.
رابعاً: البنوك المركزية والعملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC): كرد فعل استراتيجي، شهدنا خلال السنوات الأخيرة توجهاً متزايداً من عشرات البنوك المركزية نحو استكشاف أو إصدار عملات رقمية سيادية. الفكرة هي تقديم نسخة رقمية من العملة الوطنية تتمتع بثقة الدولة ويمكن استخدامها بمرونة كالعملات المشفرة ولكن تحت إشراف السلطات النقدية. على سبيل المثال، يختبر بنك الشعب الصيني بنشاط اليوان الرقمي، كما أطلق البنك المركزي الأوروبي مشروع اليورو الرقمي في مراحل تشاورية، وتدرس الولايات المتحدة إصدار دولار رقمي. أحد دوافع هذه المشاريع هو مجاراة الابتكار التكنولوجي الذي قدمته العملات المشفرة، لضمان أن تبقى الأموال التي يصدرها البنك المركزي ملائمة لعصر الاقتصاد الرقمي. بهذه الطريقة يأمل صناع السياسات الحفاظ على الدور المركزي للبنوك المركزية حتى في عالم تنتشر فيه أشكال جديدة من النقود. بالإضافة إلى ذلك، يرى البعض أن إصدار عملات رقمية رسمية قد يقلل الإقبال على العملات المستقرة الخاصة أو البيتكوين لغرض المدفوعات، إذ سيتوفر للجمهور بديل رقمي آمن وقانوني. بطبيعة الحال، تصميم هذه العملات الرقمية يطرح أسئلة معقدة حول الخصوصية والأمان ودور البنوك التجارية، لكن التحرك نحوها يؤكد أن ثورة البيتكوين دفعت البنوك المركزية للتفكير الابتكاري وإعادة تقييم دورها.
خامساً: الاستقرار المالي وتنظيم الأصول المشفرة: مع نمو سوق البيتكوين إلى قيمة سوقية تجاوزت أحياناً 2.3 تريليون دولار، لم يعد من الممكن تجاهل تأثير تحركاته على الأسواق المالية عموماً. صحيح أن انكشاف البنوك والصناديق بشكل مباشر لا يزال محدوداً، لكن حصلت بعض الحوادث التي دقت جرس الإنذار. منها مثلاً انهيار بنك Silvergate الأمريكي في 2023 الذي كان متخصصاً في تقديم الخدمات لشركات التشفير. وكذلك قضية منصة FTX في أواخر 2022 التي أفلست بشكل مفاجئ مما أحدث صدمة في السوق المشفرة وأدى لخسائر للمستثمرين. هذه الأحداث وغيرها جعلت الجهات التنظيمية (كالبنك الاحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي وهيئات الأوراق المالية) تؤكد ضرورة وضع قواعد تنظيمية واضحة للتعاملات بالعملات المشفرة. وبالفعل تم إحراز تقدم: في أوروبا تم إقرار قانون الأسواق في الأصول المشفرة (MiCA) عام 2023 والذي يضع إطاراً شاملاً لتنظيم إصدارات العملات المستقرة وتراخيص منصات التداول وحماية المستهلكين. كما بدأت لجنة بازل بوضع معايير لكيفية احتساب المتطلبات الرأسمالية لحيازات البنوك من هذه الأصول، وقررت أنه يجب وزنها بأعلى مستوى مخاطرة (1250%) مما يعني فعلياً تقييد أي حيازة كبيرة للبيتكوين في ميزانيات البنوك. تهدف هذه الإجراءات إلى احتواء المخاطر ومنع انتقال اضطرابات سوق التشفير إلى النظام المالي التقليدي. وبالتوازي، تستمر البنوك المركزية في توعية الجمهور بشأن مخاطر التعامل غير المنظم في العملات المشفرة، فكثيراً ما يشير المسؤولون إلى تقلبها العالي وكونها لا تستند إلى أصول أو ضمانات حكومية. على سبيل المثال، وصف البنك المركزي الأوروبي في مدونة شهيرة له عام 2022 البيتكوين بأنه في مسار “غير ذي صلة” وأنه فقاعة مضاربات قد تكون فقدت الزخم (في إشارة إلى انهيار سعره آنذاك) – في محاولة لتبديد فكرة أنه ذهب رقمي.
في الخلاصة، يمكن القول إن البيتكوين مثَّل جرس إنذار وتحفيز في آن واحد للنظام المالي التقليدي. فمن جهة، كشف إمكانية وجود نظام نقدي موازٍ خارج السيطرة المركزية، مما دفع البنوك المركزية والمؤسسات إلى أخذ المخاطر على محمل الجد (مثل مخاطر غسيل الأموال أو زعزعة الاستقرار) والتحرك لوضع أطر تنظيمية وحلول بديلة (كإصدار عملات رقمية رسمية). ومن جهة أخرى، أظهر أيضاً فرصاً لتحديث النظام المالي وجعله أكثر كفاءة وشمولاً باستخدام التقنيات المستوحاة من العملات المشفرة.
وبينما لن يحل البيتكوين محل العملات السيادية في المدى المنظور نظرًا للتقلب وضعف اعتماده كوسيلة دفع يومية، إلا أن تأثيره الفكري كان عميقاً. ولا يزال تبني البتكوين في مراحله المبكرة جدًا حيث ان أقل من 2% من سكان العالم يمتلكون البيتكوين. هذا وتمر السلع النقدية بعدة مراحل، حيث تبدأ بمرحلة مخزن للقيمة (SOV)، ثم وسيط للتبادل (MOE)، ثم وحدة حساب (UofA). عالم المال اليوم أصبح أكثر انفتاحاً على الابتكار: بنوك تجارية تقدم خدمات حفظ وتداول تشفيرية، بنوك مركزية تطور نسخاً رقمية من عملاتها، ومستثمرون يدخلون هذه الأصول ضمن محافظهم. ويبقى التحدي للبنوك المركزية هو الموازنة بين تشجيع الابتكار وضمان ألا تؤدي طفرة التقنيات المالية الجديدة إلى تقويض الاستقرار النقدي والمالي الذي يعد صلب مهمتهم. في نهاية المطاف، دفع ظهور البيتكوين الجميع إلى إعادة التفكير في مفهوم الثقة في المال: هل تأتي من حكومة مركزية أم من شبكة لامركزية؟ والإجابة النهائية ربما تكون مزيجاً من الاثنين في المستقبل القريب.
(للتواصل: zawya.arabic@lseg.com)
#أخباراقتصادية
للاشتراك في تقريرنا الأسبوعي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا







