مرة أخرى، يتصدر سقف الديون الأمريكية عناوين الأخبار ويثير القلق خاصة في ظل التحديات التي يشهدها الاقتصاد العالمي. 

الدين هو آلية مهمة تسمح للحكومة بالاقتراض للوفاء بالتزاماتها المالية. 

وفي الولايات المتحدة، سقف الدين هو الحد الأقصى الذي يُسمح باقتراضه لتمويل الحكومة والوفاء بالتزاماتها المالية. 

كان رفع سقف الديون في يوم من الأيام تصويتا روتينيا إلى حد ما. ومنذ عام 1960، رفع الكونغرس الأمريكي الحد الأقصى للاستدانة 78 مرة. 

وفي ديسمبر من عام 2021، رُفع سقف الديون الفيدرالية بمقدار 2.5 تريليون دولار إلى 31.381 تريليون دولار، واستمر السقف عند هذا الحد حتى 19 يناير 2023، وفقا لرسالة حديثة من وزيرة الخزانة جانيت يلين إلى قادة الكونغرس.

وبما أن الولايات المتحدة تواجه تهديدا وشيكا بعدم رفع سقف ديونها، فهناك حاجة ملحة لفهم العواقب المحتملة لمثل هذا السيناريو. 

سيكون للفشل في رفعه مرة جديدة تداعيات خطيرة على الاقتصاد والأسواق المالية وسبل عيش المواطنين الأمريكيين. 

فما النتائج المحتملة في حال لم يُرفع سقف الديون الأمريكية؟

إذا لم يوافق الكونغرس على رفع سقف الدين ولم تتمكن وزارة الخزانة الأمريكية من الوفاء بالتزاماتها، فستتصاعد التداعيات الاقتصادية بسرعة، مما قد يؤدي إلى ركود عميق. 

أولا: الإغلاق الحكومي 

أحد الآثار المباشرة لعدم رفع سقف الديون هو إغلاق الحكومة أو ما يعرف بالانجليزية “government shutdown”.

 لن تتمكن الحكومة الفيدرالية من اقتراض المزيد من الأموال لدفع فواتيرها، مما يؤدي إلى وقف الخدمات غير الأساسية وتعطيل عدد من البرامج الحكومية، وتأخير دفع المقاولين، عدا عن التأثير سلبا على ملايين الأفراد والشركات الذين يعتمدون على الدعم الحكومي.

وفقا لوكالة ستاندرد اند بورز، أدى إغلاق الحكومة لعام 2013، والذي استمر 16 يوما، إلى انخفاض نمو الناتج المحلي الإجمالي الفصلي السنوي بنسبة 0.6% أو ما يعادل 24 مليار دولار.  

وكلما طالت فترة الإغلاق، زادت التداعيات الاقتصادية.

ثانيا: اضطراب السوق وزيادة تكاليف الاقتراض

في حال فشلت مساعي رفع سقف الدين، قد تزداد حالة عدم اليقين والتقلبات في الأسواق المالية العالمية وقد تتزعزع ثقة المستثمرين في استقرار سندات الخزانة الأمريكية، مما يؤدي إلى عمليات بيع محتملة وارتفاع في تكاليف الاقتراض.

تاريخيا، خلال فترات تأخر سقف الديون، وضعت وكالات التصنيف الائتماني التصنيف الائتماني للحكومة الأمريكية تحت المراقبة لاحتمال حدوث خفض في تصنيف سندات الحكومة الأمريكية.

وفي عام 2011، بعد المواجهة المطولة بشأن سقف الديون بين الديموقراطيين والمحافظين في الكونغرس للتصويت على قرار رفع سقف الدين، خفضت ستاندرد اند بورز التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من AAA إلى AA +. 

تؤدي هذه المراجعة إلى زيادة تكاليف الاقتراض، مما يجعل تمويل عملياتها أكثر تكلفة على الحكومة، وبالتالي يثقل كاهل دافعي الضرائب.

وقدر مكتب المساءلة الحكومية (GAO) أن المواجهة حول سقف الديون لعام 2011 رفعت تكاليف الاقتراض بإجمالي 1.3 مليار دولار في السنة المالية 2011، وأدى مأزق حد الديون لعام 2013 إلى تكبد تكاليف إضافية على مدى فترة سنة واحدة تتراوح بين 38 مليون دولار إلى أكثر من 70 مليون دولار.

ثالثا: انخفاض النمو الاقتصادي وفقدان الوظائف

سوف تمتد التداعيات الاقتصادية الناتجة عن عدم رفع سقف الديون إلى أبعد من الإغلاق الحكومي. 

قال اقتصاديون بالبيت الأبيض في تقرير صدر في 3 مايو 2023 إن التأخير المطول في رفع سقف الديون قد يدفع الاقتصاد الأمريكي إلى الركود. 

وبحسب تقرير مجلس المستشارين الاقتصادين (CEA) الذي نشره البيت الأبيض، قد يقضي التأخير على أكثر من 8 ملايين وظيفة ويسبب أضرارا اقتصادية "خطيرة" تصل الى إمكانية انكماش اقتصادي للناتج المحلي الحقيقي بنسبة 6.1% في الربع الثالث من العام 2023. 

رابعا: الدولار في خطر 

إذا لم ترفع الولايات المتحدة سقف الديون ولم تتمكن من الوفاء بالتزاماتها المالية، فقد يكون لذلك آثار سلبية على الدولار الأمريكي. 

فسيؤدي الفشل في رفع سقف الديون إلى تخلف عن سداد سندات الخزانة الأمريكية، والتي تعتبر من أكثر الأصول الآمنة في النظام المالي العالمي.

من المرجح أن يؤدي التخلف عن السداد إلى تقويض الثقة في الدولار الأمريكي وإلى زيادة عدم اليقين في الأسواق المالية.

 قد يشعر المستثمرون بالقلق بشأن الجدارة الائتمانية (credit worthiness) لحكومة الولايات المتحدة.

وقد يلجأ المستثمرون إلى بيع سندات الخزانة الأمريكية وقد يؤدي ضغط البيع هذا إلى انخفاض قيمة الدولار الأمريكي مع زيادة المعروض من الدولارات مقابل الطلب.

علاوة على ذلك، فإن التخلف عن السداد أو حتى التصور باحتمالية التخلف عن السداد يمكن أن يكون له تداعيات اقتصادية أوسع. 

يمكن أن يعطل الأسواق المالية، ويزيد من تكاليف الاقتراض للحكومة والمقترضين الآخرين، ويضر بالاستقرار الاقتصادي العام للولايات المتحدة. هذه العوامل يمكن أن تزيد من إضعاف قيمة الدولار الأمريكي.

من المهم ملاحظة أن قيمة الدولار الأمريكي تتأثر بالعديد من العوامل، بما في ذلك الظروف الاقتصادية وقرارات السياسة النقدية والتطورات الجيوسياسية ومعنويات السوق. لذلك، في حين أن الفشل في رفع سقف الديون يمكن أن يؤدي إلى ضغوط هبوطية (downward pressure) على الدولار الأمريكي، فإن حجم ومدة الانخفاض سيعتمد على الظروف وكيفية تفاعل المشاركين في السوق.

خامسا: الانعكاسات العالمية والنفوذ الأمريكي الضعيف

تمتد عواقب الفشل في رفع سقف الديون إلى ما وراء حدود الولايات المتحدة. يلعب الدولار الأمريكي، باعتباره العملة الاحتياطية العالمية، دورا حيويا في الاستقرار المالي العالمي. 

وإن أي شكوك حول قدرة حكومة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية من شأنه أن يثير مخاوف بين المستثمرين الدوليين، مما يؤدي إلى زيادة التقلبات في الأسواق العالمية.

علاوة على ذلك، فإن الفشل في رفع سقف الديون من شأنه أن يقوض تصور الولايات المتحدة كقوة اقتصادية مسؤولة. وهذا يمكن أن يقلل من تأثيرها على المسرح العالمي ويقوض الثقة في قدرة حكومة الولايات المتحدة على إدارة شؤونها المالية بشكل فعال.

التداعيات المحتملة لعدم رفع سقف الديون الأمريكية وخيمة. من عمليات الإغلاق الحكومية وتأخر المدفوعات إلى اضطراب السوق وانخفاض النمو الاقتصادي، ستتردد العواقب في جميع أنحاء الاقتصاد، مما يؤثر على الشركات والأفراد والأمة ككل. من الضروري لواضعي السياسات إعطاء الأولوية لزيادة سقف الدين والتصويت عليه  في الوقت المناسب لتجنب أزمة اقتصادية كارثية والحفاظ على الاستقرار المالي للبلاد وسمعتها العالمية.

 

(إعداد: محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)