من إسراء أحمد، محلل اقتصادي أول

شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر

حصري لزاوية عربي

مقدمة

في يوليو 2019، تسلمت مصر الشريحة الأخيرة من قرض صندوق النقد الدولي البالغ 12 مليار دولار، والذي كان مدعوماً ببرنامج للإصلاح الاقتصادي بدأ في نوفمبر 2016 بعد مرحلة اقتصادية عصيبة مرت بها مصر منذ عام 2011.

بشكل عام، تؤكد الحكومة المصرية نجاح البرنامج في تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي، وكذلك تشيد المؤسسات الدولية – منها صندوق النقد ذاته – بالتجربة المصرية، وقد تحسنت التدفقات الدولية بشكل كبير فيما يشار إليه دائماً كشهادة ثقة في الاقتصاد المصري. إلا أن للقصة جانباً آخر، فبين تأكيدات الحكومة وإشادة المؤسسات الدولية يعنينا أن نستعير نظارة الطرف الثالث للقصة، وهو المواطن المصري، لنقرأ بها الأمور على طريقته.

الوجه الآخر للقصة

فهنا والآن، وفي الذكرى الثالثة لبدء البرنامج وانتهاء مدة القرض ذات السنوات الثلاث، نشير سريعاً إلى بعض أوجه التحسن التي طرأت على ملامح الاقتصاد المصري، ومنها تحسن التدفقات الأجنبية، ومؤشرات النمو الاقتصادي (وهو ببساطة قدر الزيادة فيما تنتجه الدولة من سلع وخدمات) إلى حوالي 5.6% في العام المالي الماضي (الذي بدأ في يوليو 2018 وانتهى في يونيو 2019) بعد متوسط قدره فقط 2% في الأعوام المالية 2010/11 إلى 2012/13 – مع عودة مؤشرات التضخم (أي مؤشرات قياس معدلات الزيادة في الأسعار) إلى معدلات فردية بعد موجة شديدة القسوة من الزيادات عقب تعويم الجنيه المصري في 3 نوفمبر 2016.

وللتفصيل بالأرقام، فإن معدل التضخم تراجع باستمرار منذ منتصف 2019 حتى سجل 3% في أكتوبر الماضي، وهو تراجع حاد إذا ذكرنا أن نفس المعدل سجل أكثر من 30% كزيادة في الأسعار خلال عام 2017 عقب فترة التعويم، وهو أمر لا يسهل نسيانه على الجميع سواءً كنا محللي اقتصاد أو مواطنين.

 إلا أننا هنا لسنا بصدد عرض تطور تلك المؤشرات، فالأخبار الاقتصادية والتقارير الحكومية لم تبخل في عرضها باستمرار، لكننا – ودون الدخول في التفاصيل وفنياتها – نشير إلى بعض الجوانب التي انتقصت من وصول نتائج ذلك التحسن كاملة إلى المواطن المصري العادي.

النمو والتنمية

بعيداً عن معدلات النمو، تظل التنمية هي المفهوم الأقرب لحياة المواطن.

 فبينما يُعنَى النمو بالزيادة في قيمة ما ننتجه من سلع وخدمات، ينتظر المواطن انعكاس ذلك على مستوى معيشته من مستويات الأسعار وجودة ما يتلقى من سلع وخدمات خاصة التعليم، الصحة، والنقل والمواصلات، والعدالة في توزيع الدخل وتحسن مستوى الرفاهية، وهو ما تشمله كلمة أخرى هي "التنمية".

 فعلى سبيل المثال، نجد أن مخصصات الصحة والتعليم قد شهدت نمواً متواضعاً نسبياً في العامين الماليين الأولين لتطبيق برنامج الإصلاح (2016/17 و2017/18)، بمتوسط زيادة حوالي 18% للصحة و6% للتعليم، بينما تجاوز معدل التضخم 20% كمتوسط للعامين الماليين.

بمعنى أبسط: الزيادة في الإنفاق على القطاعين تكاد لا تعادل نسبة الزيادة في الأسعار، أي أن الإنفاق الحقيقي في صورة خدمة ملموسة (بناء مدارس ومستشفيات جديدة، شراء أجهزة طبية، مستلزمات تجهيز المدارس، وغيرها) لم تشهد تطوراً يفي بتطلعات المصريين، خاصة في ظل الزيادة السكانية.

من ناحية أخرى، يبقى العامل الأهم هو مصدر النمو الاقتصادي ... لماذا؟

لأنه على قدر أهمية زيادة النمو لزيادة الدخل القومي وخلق فرص التشغيل، إلا أننا لكي نحدد المردود الاجتماعي لهذا النمو على المواطن العادي لابد أن نتساءل عن القطاعات التي حققته، والقطاعات المستفيدة منه.

وفي هذا الصدد، اعتمد الاقتصاد المصري لتحقيق النمو والتشغيل على الاستثمار في قطاعات مثل التشييد والبناء، قطاع الكهرباء، والقطاعات الاستخراجية مدعومة باستكشافات الغاز الحديثة، وهي قطاعات كثيفة رأس المال، أي أنها تستعين بالمعدات والتجهيزات أكثر من العنصر البشري، وبالتالي مدى اتساع دائرة "الأفراد" المستفيدين مباشرة بالتشغيل والدخول المتولدة في تلك القطاعات تبقى محدودة نسبياً إذا ما قورنت بالطاقة البشرية الهائلة للدولة.

الأسعار

خلفية سريعة:

تحسن مؤشر قياس التضخم بشكل مستمر منذ يونيو 2019، حيث سجل قراءات منخفضة متتالية لم يشهدها منذ سنوات.

فبعد معدلات بلغت ذروتها الثلاثينية خلال صيف عام 2017 – حيث قاربت الـ 33% لمعدل التضخم العام في يوليو 2017 – انخفض إلى حوالي 3% في أكتوبر 2019.

ماذا يعني هذا الانخفاض؟

عموماً، نرى أن هذا الانخفاض يرجع إلى مقارنة رقم المؤشر بفترات مناظرة مرتفعة خلال العام الماضي. وكذلك يتمثل العامل الأكثر أهمية لهذا الانخفاض في ضعف استجابة الأسعار للإجراءات الأخيرة للإصلاح المالي ورفع دعم الوقود، الأمر الذي لفت أنظار الاقتصاديين والمحللين.

وقد يعود ذلك إلى تحسن سعر صرف الجنيه أمام الدولار منذ بداية العام، بالإضافة إلى تكيف السوق المصرية نوعاً ما مع صدمات الأسعار. فتسارع أطراف السوق المختلفة لزيادة الأسعار بشكل مطرد وربما غير مبرر بشكل كامل كنتيجة لزيادة سعر الوقود، لم يحدث خلال الإجراءات الأخيرة كما شهدناها في 2016 و2017.

 ونتج عن ذلك - بالإضافة إلى تحسن سعر الصرف لصالح الجنيه – هبوط معدلات التضخم منذ يونيو الماضي وحتى الآن. ويعتبر ذلك الهدوء التضخمي بمثابة تجاوز لأحد أهم مصاعب برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي كنا نعتبره بمثابة "جراحة دون مخدر" لصعوبة بعض نتائج إجراءاته على المواطن العادي.

ولكن ومع تجاوز تلك المرحلة، لماذا لا يشعر المواطن بانخفاض معدل زيادة الأسعار؟

ربما يخلط بعض المواطنين بين انخفاض التضخم، وبين انخفاض الأسعار.

 فوصول معدلات التضخم (أي مستويات الزيادة في الأسعار) إلى مستويات منخفضة لا يعني إطلاقاً نزول الأسعار، وهو ما قد ينتظره المواطن المصري كنوع من التعويض عن الفترة الصعبة التي عقبت التعويم مباشرة.

 حيث قد يجد المواطن العادي أن تباطؤ وتيرة زيادة الأسعار هي أمر غير كاف، فهو يطمح إلى نزول محسوس في أسعار السلع والخدمات.

 كذلك يعود الأمر إلى طريقة قياس التضخم نفسها، إذ أن مؤشر أسعار المستهلكين (وهو المؤشر الرئيسي لقياس تغيرات الأسعار) يتأثر بشكل كبير بالتذبذبات في أسعار الأغذية والمشروبات. فلابد هنا من توضيح معلومة هامة، أن قياس التغيرات في أسعار السلع والخدمات المختلفة يعتمد على أوزان أو نسب معينة لتلك السلع والخدمات، ويعتبر بند الأغذية والمشروبات هو أعلاها على الإطلاق بنصيب الأسد، يشكل حوالي 32% من المؤشر. ولذا، نجد أن تغيرات بنود مثل الخضروات والفاكهة تؤثر بشكل كبير في المؤشر صعوداً وهبوطاً.

ورغم أهميتها، إلا أن المواطن حين يسمع عن انخفاض التضخم لا يتفهم أن الأمر يتعلق في معظمه باعتدال أسعار البطاطس أو انخفاض تكلفة الطماطم والليمون، وإنما ينتظر كذلك أن تنخفض أسعار زيارة طبيب الأسنان والملابس الشتوية مع بداية الموسم بل وتكلفة المصيف السنوي إن أمكن. فهو ينظر لتكلفة بنود حياته الشخصية كلها، وحينها يصير الحديث عن الأوزان النسبية للمؤشر وفنيات قياس التضخم الإحصائية أمراً غير مهم بالنسبة له.

تحسن مؤشرات الموازنة العامة للدولة

أولاً وقبل كل شيء ماذا يعني هذا؟

ببساطة كان أحد المحاور الرئيسية لبرنامج الإصلاح هو إعادة هيكلة الموازنة (أي ترشيد إنفاق الدولة المالي وزيادة إيراداتها)، وبالتالي خفض عجز الموازنة وهو ما يعني أن تقل الفجوة بين إيرادات الدولة ومصروفاتها ويقاس كنسبة من إجمالي الناتج المحلي لإعطاء صورة على قدرة الدولة المالية على سد هذا العجز.

إلا أن المواطن لا يعرف عن "خفض عجز الموازنة" إلا أنه يعني خفض الدعم وزيادة الضرائب على الأرجح.

فترشيد الموازنة العامة المصرية وخفض العجز الكلي من حوالي 13% من الناتج في العام المالي 2012/13 إلى ما حققته في العام المالي 2018/19 ليصل إلى 8.2% تقريباً، استدعى إجراءات عديدة أكثرها شدة على الإطلاق كان رفع الدعم عن المحروقات وهو ما ساهم مع التعويم في الموجة التضخمية التي تحدثنا عنها في السابق.

ولهذا فإن ما يبدو نجاحاً ساحقاً للحكومة والمؤسسات الدولية والمتخصصين في شئون الاقتصاد اقترن عند للمواطن المصري بانخفاض مستوى معيشته، وهو ما تضمنه البحث الأخير للدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حيث أشار إلى ارتفاع نسبة المصريين تحت خط الفقر من 27.8% في 2015 إلى 32.5% في 2018.

 

 إذاً ما الحل؟

انتظرونا في الجزء الثاني من التقرير.

 

 (للتواصل: ياسمين صالح، yasmine.saleh@refinitiv.com)

 

© ZAWYA 2019

إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى الأصلي
تم كتابة محتوى هذه المقالات وتحريره من قِبل ’ ريفينيتيف ميدل ايست منطقة حرة – ذ.م.م. ‘ (المُشار إليها بـ ’نحن‘ أو ’لنا‘ (ضمير المتكلم) أو ’ ريفينيتيف ‘)، وذلك انسجاماً مع
مبادئ الثقة التي تعتمدها ريفينيتيف ويتم توفير المقالات لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقترح المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية أي استراتيجية معيّنة تتعلق بالاستراتيجية الأمنية أو المحافِظ أو الاستثمار.
وبموجب الحد الذي يسمح به القانون المعمول به، لن تتحمّل ’ ريفينيتيف ‘، وشركتها الأم والشركات الفرعية والشركات التابعة والمساهمون المعنيون والمدراء والمسؤولون والموظفون والوكلاء والمٌعلنون ومزوّدو المحتوى والمرخّصون (المشُار إليهم مُجتمعين بـ ’أطراف ريفينيتيف ‘) أي مسؤولية (سواءً مجتمعين أو منفردين) تجاهك عن أية أضــرار مباشــرة أو غيــر مباشــرة أو تبعيــّة أو خاصــة أو عرضيّة أو تأديبية أو تحذيريّة؛ وذلك بما يشمل على سـبيل المثـال لا الحصـر: خسـائر الأرباح أو خسارة الوفورات أو الإيرادات، سـواء كان ذلك بسبب الإهمال أو الضـرر أو العقـد أو نظريـات المسـؤولية الأخرى، حتـى لـو تـم إخطـار أطـراف ’ ريفينيتيف ‘ بإمكانيـة حـدوث أيٍ مـن هـذه الأضرار والخسـائر أو كانـوا قـد توقعـوا فعلياً حدوثهـا