مر الاقتصاد المصري خلال السنوات الأخيرة بأحداث متلاحقة وفترات متباينة في الأداء إلى حد التناقض. فبعد فترة تميزت بارتفاع معدلات النمو الاقتصادي ما بين 2004 و2011 (فترة حكومة أحمد نظيف)، وتوسع رقعة القطاع الخاص في الاقتصاد، جاءت ثورة يناير بمطالب عدة وسنوات مستمرة من الحراك السياسي. وكأي مرحلة تغيرات سياسية في أية دولة، دفع الاقتصاد ثمن قد تختلف الأطراف المختلفة في أسبابه وطرق تقييمه. إلا أن مظاهر هذا الثمن المدفوع كانت واضحة للكل:

معدلات نمو متباطئة

تضخم عجز الموازنة بشكل مخيف

تراجع الإيرادات الدولارية بشكل مستمر

مما أدى أخيراً لمشكلة تسعير العملة الشهيرة والسوق الموازية وعدم توافر الدولار  

استمرت تلك المرحلة حتى عام 2016، حيث قامت الحكومة المصرية بتبني البرنامج المعروف عالمياً في الأوساط الاقتصادية ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، بينما أفضل تسميته ببرنامج الضبط المالي، حيث كان أحد أبرز نتائجه هو ضبط عجز الموازنة نسبياً، والذي وصفه تقرير جديد البنك الدولي بـ"المجهود الكبير" في مجال الضبط المالي، وأثنت عليه معظم المؤسسات الدولية، إلا أنه لازالت بعض المجالات تحتاج لجهد لإصلاحها. 

ومؤخراً، أصدر البنك الدولي تقرير حول القطاع الخاص في مصر، أفشى فيه ما ليس سرا، وهو أن القطاع الخاص المصري لازال يعاني تحت وطأة  بعض المعوقات. حيث يرى التقرير أنه بينما نجحت الإجراءات التي تم اتخاذها خلال السنوات الأخيرة في استعادة الثقة في أهم مؤشرات الاقتصاد المصري، لازال هناك احتياج لإطلاق زيادة مؤثرة، ومستمرة، في الاستثمارات الخاصة والصادرات بالذات في مجال غير مجال الصناعات الاستخراجية والذي يتضمن استخراج الغاز والبترول والمعادن وما يرتبط به من صناعات وخدمات.

وبعد إصدار قانون الكهرباء رقم 87 لسنة 2015، وصلت استثمارات القطاع الخاص في قطاع الكهرباء إلى حوالي 50 مليار جنيه في 2019، مقابل 4.5 مليار جنيه متراكمة خلال الـ15 عام السابقة. كذلك ارتفعت استثمارات القطاع الخاص في قطاع الغاز لتسجل 21% من إجمالي استثمارات القطاع الخاص، مرتفعة من 14% في 2014، مما يعكس الإصلاحات التي تمت في هذا القطاع.

  ولكن بالرغم من أن نصيب استثمارات القطاع الخاص في الاقتصاد بدأت في التزايد، إلا أنها تظل أقل من متوسطها في مراحل سابقة، وأقل كثيراً من دول أخرى مشابهة في حجم اقتصادها. ولن ننسى كذلك كوفيد-19، ذلك الضيف الثقيل الذي جاء ليعمق من أثر نقاط الضعف الموجودة بالفعل، ويؤكد الاحتياج للإسراع بالإصلاحات التي نحتاجها.  

فما هي أهم قيود وأوجه ضعف القطاع الخاص في مصر التي أشار إليها تقرير حديث من البنك الدولي؟ 

حواجز تحد من التنافسية التجارية: 

  • بالرغم من تعويم الجنيه المصري في نوفمبر 2016 والانخفاض الكبير في قيمته، إلا أن استجابة الصادرات كانت ضعيفة نسبياً، ولا ترقى إلى المستوى الذي تطمح إليه دولة خفضت قيمة عملتها بأكثر من النصف. ظلت نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل من مستوياتها السابقة، حيث سجلت تلك النسبة في 2019 حوالي 17.5% من الناتج المحلي مقابل 20.5% تم تسجيلها في 2011. 
  • أشار كذلك التقرير إلى نقطة نراها هامة، وهي أن التضخم الناتج عن انخفاض قيمة الجنيه، قد أكل بدوره من تنافسية أسعار السلع المصدرة. بمعنى، أن تكلفة إنتاج السلع نفسها قد ارتفعت بشكل كبير، وبالتالي انعكس ذلك على تنافسية تسعيرها بالدولار في الأسواق الخارجية، مما خفض من فرصة توسع الحصة السوقية للمنتجات المصرية في الخارج. 
  • يرى البنك الدولي كذلك أن هناك بعض العوامل التي تمنع القطاع الخاص من استغلال طاقاته في التصدير والتوسع في السوق الخارجية. فمع وجود المقومات التي تؤهل مصر لتصبح مركز للتجارة، إلا أن هناك العديد من الحواجر التجارية غير الجمركية. منها مثلاُ، إجراءات الإفراج الجمركي وتكاليفه التي ما زالت تحتاج إلى التقليص. إلا أنه في هذا المجال، ومع تطبيق قانون الجمارك الجديد، توجد بعض التحركات تجاه تخفيض زمن الإفراج الجمركي لأقل من يوم، حسب ما ورد في بعض الأخبار مؤخراً عن توجيهات رئاسية في هذا الاتجاه.
  • كما أن القطاع اللوجيستي لازال يعاني بعض نقاط الضعف. فعلى سبيل المثال، تتسبب ضعف طرق نقل المحاصيل الزراعية وسعة أساليب التخزين إلى ارتفاع الهدر في بعض نوعيات المحاصيل إلى ما بين  15-20% من المحاصيل التي لا تحتاج إلى تبريد، وإلى 25-50% من المحاصيل الأخرى التي تحتاج إلى تبريد أو أساليب تخزين معينة. 
  • تواجد ضعيف في سلاسل القيمة العالمية، بالرغم من أهميتها. وسلاسل القيمة العالمية تعني أن يتم الإنتاج بشكل موزع على الشركات المختلفة، بحيث تتخصص كل شركة في مهمة بعينها، ولا تنتج السلعة بشكل كامل، بمعنى آخر هو نوع متطور من نظريات الميزة النسبية والتخصص كأساس للتجارة بين الدول. وهو نمط له مزاياه، حيث يشير البنك الدولي في تقريره أن التجارة العالمية بنمط سلاسل القيمة تساهم بشكل أكبر من التجارة التقليدية في خفض معدلات الفقر ورفع متوسط الدخل. ويرجع هذا التواجد الضعيف إلى تركز الصادرات المصرية في سلع ذات طابع أولي نوعاً ما، بينما تتركز سلاسل القيمة في التقنيات المتطورة، الآلات والماكينات والإلكترونيات والنقل. وبالطابع، ضعف تواجد مصر في سلاسل القيمة العالمية، يضيع فرص كثيرة في رفع التشغيل وخفض معدلات الفقر، واجتذاب استثمارات أجنبية أكثر. 

تعاظم دور الدولة يثير المخاوف بشأن المنافسة: 

  • يشير البنك الدولي إلى أن هناك "انطباعات" بتنامي دور الدولة في الاقتصاد، بما يثير بعض التساؤلات حول رؤية مؤسسات الدولة لدور القطاع الخاص في عملية التنمية ومدى إيمانها به. ويعتبر أحد أسباب ذلك هو ميراث من الماضي، حيث ظلت مصر طويلاً في مرحلة محاولة الانتقال من الاقتصاد المخطط مركزياً إلى اقتصاديات السوق. 
  • تلك التساؤلات، وفقاً لوصف البنك الدولي في تقريره بأنها "أرضية غير مستوية للملعب"، ساعد عليها توسع دور الشركات المملوكة للدولة، التي يخيم غياب الشفافية أحياناً على مناخ عملها، بالذات مع تشابك وتعقيد الأطر القانونية الحاكمة لها، مما يزيد من صعوبة تحليل أوضاعها الاقتصادية وتقييم حصصها بشكل دقيق. 
  • - إلا أن التقرير أشار كذلك إلى أن هناك مجهودات في مجال إعادة هيكلة وتنظيم تلك الشركات. فعلى سبيل المثال، هناك مجهودات تمت مؤخراً من وزارة قطاع الأعمال العام لتنظيم بعض الشركات في مجال النسيج، لتباشر أعمالها على أسس أفضل تجارياً.

حواجز مؤسسية وبيروقراطية: 

  • هناك بعض العوائق التي تثير مخاوف المستثمرين، سواء الأجانب، أو المحليين وخاصة صغار المستثمرين. فمثلاً، التحكيم والعدالة وفض النزاعات هي عملية طويلة وتنطوي على الكثير من هدر الوقت، وخاصة فيا يتعلق بالنزاعات التجارية (حصلت مصر على 40 من 100 في تقييم تقرير أداء الأعمال 2020، فيما يتعلق بمؤشر إنفاذ العقود). فعملية التقاضي تحتاج إلى المزيد من الكفاءة فيما يتعلق بالوقت والتكلفة. 
  • يشكل الوقت والتكلفة عامل أكثر حساسية للشركات الصغيرة والمتوسطة تحديداً. فالتقاضي في مثل تلك الشركات عادة يخص مبالغ أو قيم صغيرة نسبياً، ومع طول الإجراءات ووجود مصروفات إدارية تشكل تلك المصروفات نسبة كبيرة نوعاً ما من أصل القيمة المتنازع عليها. قد يؤدي ذلك إلى ضعف فكرة التحكيم التجاري ذاتها، حيث تشكل المدة الطويلة ضغط  كبير على الطرف الأضعف اقتصادياً في النزاع، مما يدفعه إلى التنازل أو التصالح مع التغاضي عن جزء من حقه. 

تلك هي بعض من المشكلات التي تواجه القطاع الخاص في مصر، كما جاء في أجزاء من تقرير البنك الدولي. إلا أن هناك بعض المجهودات التي تمت بالفعل، لمحاولة حل هذه المشكلات.

(إعداد: إسراء أحمد، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة.

لقراءة مقالات أخرى لإسراء:

في متاهات الديون (الجزء الثالث): هل يخيم شبح أزمة الديون على الدول النامية؟

© Opinion 2020

المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.