رغم إعلانه بإسم الحكومة عن رزمة إصلاحات استجابة لضغط المتظاهرين في الشارع، لم ينجح سعد الحريري في استيعاب غضب الناس أو في وأد انتفاضتهم المستمرة.

فإجراءات حكومته أتت متأخرة جدا، وبالرغم من بعض الإصلاحات الشكلية، الا أنها لم تتطرق الى الخلل البنيوي الذي تعاني منه مالية الدولة اللبنانية التي بالمناسبة ما زالت تجد نفسها على شفير الإفلاس. إذ تخطت نسبة الدين العام للناتج المحلي 150%- مما يشكل النسبة الثالثة في العالم بعد اليابان واليونان، بحسب بيانات لصندوق النقد الدولي-  بعد استبعاد دول أخرى لعدم دقة بياناتها- وبدأت تظهر بوادر زعزعة سعر صرف الليرة اللبنانية لأول مرة منذ عام 1999.  

الحالة الاقتصادية: 

يشير ذلك، مع الإنخفاض المضطرد لقدرة البلاد على جذب الأموال من الخارج، الى أن الأزمة الاقتصادية آتية لا محالة، وكل ما يمكن للحكومة التحكم به هو تأجيل لحظة حصولها.

في هذا السياق، يبدو كأن العنوان غير المعلن لإنتفاضة بيروت هو حول طريقة توزيع أوزار تلك الأزمة على مختلف فئات المجتمع. وكانت شرارة الانتفاضة قد أطلقت الخميس الماضي، بعد سعي الحكومة الى فرض ضرائب إضافية –الأكثر تداولا منها كانت ضريبة على الاتصالات عبر تطبيق الواتساب- تطال الطبقة الوسطى وذوي الدخل المحدود بشكل أساسي، فبدا أن تلك الفئات سوف تتحمل تكلفة الأزمة، في حين أن كبار رجال الأعمال والمصرفيين والأثرياء يتم تجنيبهم أي مساهمة جدية في المسار الإصلاحي والتقشفي للدولة.   

الوضع الحالي:   

واقع الحال أن أزمة المالية العامة اللبنانية أكثر تجذرا من أن تعالج عبر إجراءات جزئية أو آنية كتلك التي تقدمها الحكومة. أيضا، وهذا يجب أن يُقال، إن طروحات المتظاهرين، من "استعادة الأموال المنهوبة" الى "خفض رواتب المسؤولين"، غير كافية للإستجابة لخطورة الأوضاع المالية والإقتصادية الراهنة. أي معالجة فعلية عليها أن تخلق توافق لبناني واسع حول نموذج إقتصادي جديد، يستجيب لجذور الأزمة، ويؤدي الى مشاركة المصارف والأثرياء في كلفة الإنهيار الإقتصادي القادم. إنطلاقا من هنا، وبعد أن توافق اللبنانيون على ميثاق سياسي قبل الإستقلال في 1943، يقفون اليوم أمام مفترق وطني محوري، هم بحاجة خلال عبوره الى ميثاق إقتصادي-إجتماعي جديد، يمكن أن يرتكز على العناصر التالية: 

أولا، بلغت تكلفة الدين العام في العام الماضي 31% من مجمل نفقات الدولة، بقيمة بلغت حوالي 5.5 مليار دولار. وتشير التقديرات الى أن 75% من قيمة هذا الدين، يعود الى القطاع المصرفي والمالي مثل البنوك العامة والخاصة والاستثمارية. وبما أن المصارف تمكنت من تحقيق أرباح كبيرة عبر الفوائد المرتفعة التي كانت تجنيها على سندات الدين، وبما أنها من أكبر المتضررين في حال حصول إنهيار إقتصادي، لا يمكن تخيل حل جدي دون مساهمتها ضمنه. بناءً عليه، توافق المصارف على أن تستبدل سنداتها الحالية، بسندات أخرى تحمل نصف نسبة الفوائد الحالية، مما يؤدي الى خفض تكلفة الدين بما لا يقل عن 2 مليار دولار سنويا. تحصل هذه العملية بشكل تدريجي على خمسة سنوات مثلا، يسمح فيها للقطاع المصرفي تجميد العمل بها في حال تلكؤ الحكومة عن تنفيذ إلتزاماتها الإصلاحية. 

ثانيا، ولكي توافق المصارف على هذا الميثاق سوف تحتاج الى ضمانات بأن مساهمتها سوف تُطلب لمرة واحدة فقط، وأن الدولة لن تأتي اليها بشكل دوري بطلب من هذا النوع. لذلك، على الحكومة أن تلتزم بإصلاح ماليتها العامة بشكل جذري ومستدام، وأن تقدم على خطوة لبناء الثقة خلال سنة واحدة، تتمثل في إلغاء عجز شركة كهرباء لبنان، الذي بلغ 16% من مجموع نفقاتها، أي حوالي 1.5 مليار دولار. والسبيل الأسرع لتحقيق ذلك، هو خصخصة قطاع الكهرباء، وإدخال المنافسة إليه، فتنقل مهمة بناء وإدارة معامل إنتاج الطاقة الى القطاع الخاص، فيما تحتفظ الدولة بادارة الشبكة المعتمدة لنقل التيار وبالإشراف على القطاع.  

ثالثًا، إستحوذ الانفاق على رواتب وأجور وتعويضات موظفي القطاع العام على 36% من مجمل الانفاق العام في عام 2018، فبلغ 6.3 مليار دولار في هذا العام. وبما أن هذا البند يشكل أكبر بنود الانفاق، لا يمكن التفكير بنموذج إقتصادي جديد دون التطرق اليه. علما أن نسبة غير قليلة من هؤلاء الموظفون يدينون بوظائفهم لمحسوبيات سياسية جراء سياسة شراء الولاءات عبر التوظيف، والتي اعتمدها السياسيون منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990. المطلوب هنا ليس طرد ممنهج وشامل لموظفين، بل التخفيض التدريجي لأعدادهم على مدار 10 سنوات مثلا، وإلغاء قانون سلسلة الرتب والرواتب الذي منح جميع الموظفين الحكوميين زيادة غير قليلة في رواتبهم، وهذا ما لا يقدر عليه بلد بوضع لبنان المالي.  

 الخلاصة: 

في اليوم السادس على التوالي، يطالب الشارع اللبناني ب"إسقاط النظام"، وهو مطلب يصعب ترجمته حيث أن لبنان، على عكس دول أخرى لا "نظام" عنده بل حكومة منبثقة عن انتخابات نيابية حرة حصلت العام الماضي. قد يكون ما يقصده اللبنانيون هو إسقاط النظام الإقتصادي، القائم على الإستدانة والتوظيف العام لا الخاص، على حساب الإنتاج والصناعة والشبكة الإجتماعية الحمائية. نحن فعلا أمام خيارات صعبة لتوزيع أكلاف الأزمة الإقتصادية القادمة، ولن تخرج الناس من الشارع قبل أن تطمئن الى أنها لن تتحمل لوحدها التبعات، فيما تتفادى الراسمالية الكبيرة المساهمة بتصحيح المسار الإقتصادي. 


*تم التواصل مع مارون عبر موقع WriteCaliber وهو موقع حديث ومقره دبي ويقدم للصحفيين مجموعة من الخبراء للتواصل معهم واستخدام آرائهم في مواضيع صحفية ومقالات رأي.


(وقامت بالمراجعة التحريرية ياسمين صالح، للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com

© Opinion 2019

المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.