PHOTO
خلال الأسبوع الحالي شهدت الأسواق العالمية شطب مجموعة إيفرغراند الصينية من بورصة هونغ كونغ بعد أزمة اعتُبرت من أبرز الأزمات التي هزت الاقتصاد الصيني والعالمي في العقدين الأخيرين.
خلفية سريعة عن الشركة
تأسست عام 1996 ولكنها تحولت خلال فترة وجيزة من ثاني أكبر مطور عقاري في البلاد إلى كيان غارق في الديون، وبلغت ذروة قيمتها السوقية أكثر من 50 مليار دولار، مدفوعة بموجة الطلب الهائل على السكن في ظل النمو السكاني المتسارع والهجرة من الريف إلى المدن.
لكن خلف هذا النمو المذهل كانت هناك قنبلة موقوتة تمثلت في التوسع المفرط الممول بالديون، والذي انفجر في وجه الشركة ومعها القطاع العقاري الصيني برمته.
تراكمت ديون الشركة حتى وصلت إلى ما يقارب 2 تريليون يوان (أي نحو 300 مليار دولار)، لتصبح إيفرغراند أكبر شركة متعثرة في تاريخ الصين الحديث.
وتنتهي قصة الشركة بشطب أسهمها من بورصة هونغ كونغ رسمياً في 25 أغسطس 2025. وقبلها، تم تعليق التداول على أسهم الشركة لمدة تجاوزت 18 شهر منذ إصدار أمر التصفية في يناير 2024.
جذور الأزمة: النمو على رمال هشة
ارتكز نموذج إيفرغراند للنمو على استراتيجية توسعية اعتمدت على الاقتراض المكثف والبيع المسبق للوحدات العقارية.
كانت الشركة تشتري الأراضي بأسعار مرتفعة، وتطلق مشاريع ضخمة، ثم تبيع الشقق على المخطط لتحصل على السيولة اللازمة لتمويل مشاريع جديدة، في حلقة متكررة.
هذه الاستراتيجية سمحت لها بالتوسع السريع، لكنها جعلتها تعتمد بشكل شبه كامل على التدفقات النقدية المستقبلية وعلى استمرار ارتفاع أسعار العقارات.
وبذلك تحولت إلى شركة عملاقة لا تستطيع التوقف عن التوسع ولا تملك قاعدة مالية صلبة تكفي لدعمها في حال تراجع الطلب أو انحسار التمويل.
دور السياسة الحكومية في كشف الأزمة
في 2020، ومع ازدياد المخاطر النظامية التي يفرضها التضخم العقاري، فرضت الحكومة الصينية ما عُرف بــ"الخطوط الحمراء الثلاث"، وهي معايير صارمة تقيس نسبة الدين إلى الأصول، والدين إلى حقوق الملكية، والسيولة مقابل الديون قصيرة الأجل.
تجاوزت إيفرغراند هذه الخطوط جميعها، ما جعلها غير مؤهلة للحصول على تمويل جديد.
هذا القرار كشف على الفور عن ضعف نموذجها المالي، وأدخلها في أزمة سيولة خانقة، إذ لم تعد قادرة على تمويل مشاريعها الجديدة أو حتى الوفاء بالتزاماتها الحالية. ومن هنا بدأ الانهيار المتسلسل.
تضخم المديونية وانعكاساتها
بحلول 2021، تبيّن أن حجم التزامات الشركة بلغ نحو 1.97 تريليون يوان (بحدود 300 مليون دولار)، تشمل ديون مباشرة للبنوك والسندات، ومستحقات لموردين، وأموال مدفوعة مقدماً من ملايين المشترين قبضتها الشركة دون أن تُسلم العقارات.
وبالتالي توقفت مئات المشاريع، وتجمد تسليم آلاف الشقق، ما فجّر موجة استياء شعبي واسعة النطاق، حيث خرج مشترون محتجون يطالبون الحكومة بالتدخل.
وقد تحولت الأزمة سريعاً من كونها مشكلة شركة عقارية إلى قضية عامة تمس الثقة الاجتماعية والسياسية في قدرة الدولة على حماية المدخرات والسكن باعتباره حجر الأساس للاستقرار الأسري والاقتصادي.
من التعثّر إلى التصفية والشطب
رغم محاولات عديدة لإعادة هيكلة الديون، سواء عبر تمديد آجال السداد أو عبر مقايضة الديون بأصول، لم تتمكن إيفرغراند من تقديم خطة قابلة للتطبيق. وظلت المفاوضات بين الشركة ودائنيها، وهم موزّعون بين بنوك محلية٬ حاملي سندات أجانب ومورّدين صينيين، تراوح مكانها.
وفي يناير 2024، أصدرت محكمة هونغ كونغ حكم بتصفية إيفرغراند رسمياً، وجرى تعيين مكتب Alvarez & Marsal لإدارة التصفية. وعلى إثر ذلك، جُمد التداول على أسهم الشركة.
التداعيات الاقتصادية والمالية على المستوى المحلي
- امتدت آثار انهيار إيفرغراند إلى مستويات متعددة:
- سوق العقارات: شهدت حالة جمود شبه تام، مع تراجع حاد في المبيعات وازدياد معدلات الشغور، وانخفاض الأسعار في بعض المدن الكبرى.
- النظام المالي: واجهت البنوك ضغوط كبيرة بسبب انكشافها على ديون إيفرغراند، ما اضطر السلطات إلى اتخاذ تدابير لدعم السيولة وتفادي انتقال العدوى إلى بقية النظام المالي.
- المستثمرون الأجانب: تكبدوا خسائر فادحة، بعدما عجزوا عن استرداد مليارات الدولارات المستثمرة في سندات الشركة. هذا أضعف الثقة بالأسواق الصينية وأعاد طرح تساؤلات حول بيئة الاستثمار هناك.
- الجانب الاجتماعي: تضرر ملايين المشترين الذين دفعوا مقدمات لشقق لم تُسلّم، ما أدى إلى احتجاجات واسعة ومخاوف من اتساع رقعة السخط الشعبي.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن أزمة إيفرغراند العقارية تجسد إحدى أكبر الهزات التي عرفها الاقتصاد الصيني في العقود الأخيرة.
- التداعيات خارج حدود الصين
تذكرنا إيفرغراند بانهيار ليمان براذرز في 2008 الذي فجر الأزمة المالية العالمية، وبالتعثر الواسع الذي أصاب شركات التطوير العقاري في دبي خلال 2009 بعد انفجار فقاعة الديون.
غير أن ما يميز تجربة إيفرغراند أنها تكشف هشاشة نموذج النمو العقاري في الصين، القائم على الاقتراض المفرط والتمويل المسبق للمشاريع، في وقت تحاول فيه الدولة تجنب انتقال العدوى إلى النظام المالي ككل، عبر تدخل منضبط ومحسوب.
وهكذا، تبدو الأزمة حلقة جديدة في سلسلة الأزمات العقارية العالمية التي تكشف حدود التوسع غير المتوازن، وتؤكد أن الإفراط في الاعتماد على الدين يظل قاسم مشترك يقود في النهاية إلى الانهيار.
بالتوازي، تفاعلت أسواق الأسهم العالمية مع شطب إيفرغراند بطريقة متوازنة وتميل إلى الحذر، إذ لم تشهد انهيار كما كان يُخشى في بدايات أزمة المجموعة في 2021.
- الأسواق الآسيوية
كانت الأكثر تأثراً، وتحديداً الصينية، شهد فيها قطاع العقار خلال الأسبوع الحالي والذي سينتهي في 29 أغسطس، بعض التحركات المتباينة والضعيفة إلى حد ما بين 25 و27 أغسطس.
إذ ارتفعت أسهم بعض الشركات العقارية الأخرى بشكل محدود مدفوعة بآمال تدخل حكومي لإنقاذ السوق، لكن الصورة العامة ظلت واهنة نسبياً بسبب تآكل الثقة بقطاع العقار الصيني ككل.
أما أسواق اليابان وكوريا الجنوبية، فقد كان التأثير محدود نسبياً، مع بعض التقلبات في أسهم البنوك وشركات البناء المرتبطة بالصين، لكن لم تشهد حالة ذعر.
- الأسواق الأمريكية
التفاعل فيها كان أكثر برودة.
نظر المستثمرون إلى شطب إيفرغراند باعتباره متوقع لملف قديم أكثر من كونه صدمة جديدة. وبالتالي لم تتأثر الأسهم الأمريكية والأوروبية، خصوصاً وأن التعرض المباشر للبنوك الغربية تجاه ديون إيفرغراند كان قد تقلص منذ العام 2021.
- الأسواق العربية
لم تُسجل تقلبات كبيرة في أسواق الأسهم العربية بشكل مباشر نتيجة لأزمة إيفرغراند، وبالتالي فإن التأثيرات كانت محدودة جداً.
على سبيل المثال، أغلق مؤشر "تداول" السعودي على مراوحة أو تراجعات طفيفة لم تتجاوز نسبها 1% خلال الأسبوع الحالي، في حين شهدت أسواق الأسهم الإماراتية أداء مشابه. وإن توقع بعض الخبراء العقاريين أن تدفع أزمة إيفرغراند بعض المستثمرين الصينيين إلى تحويل استثماراتهم ورؤوس أموالهم إلى سوق دبي العقاري، ما قد يخلق بعض النشاط في السوق العقاري الإماراتي مستقبلاً.
(إعداد: فادي قانصو، الأمين العام المساعد ومدير الأبحاث في اتحاد أسواق المال العربية، خبير اقتصادي وأستاذ جامعي، تحرير: ياسمين صالح٬ مراجعة قبل النشر: شيماء حفظي)
#تحليلسريع
للاشتراك في تقريرنا الأسبوعي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية، سجل هنا








