يستخدم باحثو مجال المالية العامة تعبير يسمى "الفشل السوقي"، وهو تعبير قاسي نوعاً ما، يعبر عن قصور القطاع الخاص وحده في التعامل مع مجالات بعينها. 

أشهر مثالين هنا هم الصحة والتعليم. تخيل معي أن تترك خدمات حساسة كتلك في يد القطاع الخاص وحده، سينتهي الحال بحصول القادرين فقط على خدمتي الرعاية الصحية والتعليم. 

المشكلة

بغض النظر عن النظرة الإنسانية للموضوع، أو قيمة العدالة المحببة إلينا وحق حصول كل إنسان على حد أدنى من الرعاية، فهناك وجهة نظر أخرى، أن حصول القادرين فقط على بعض الخدمات لا يحميهم بشكل كامل.

فالإنسان القادر صحيح الجسد لا يمكن أن يتمتع بحياة طبيعية وصحية بشكل كامل إذا انتشر المرض حوله بين غير القادرين. كذلك لا يمكن لإنسان متعلم أن يعيش جيدا في مجتمع لديه قصور في مبادئ التعليم الأساسي وما يتيحه من فرص، فسيهدده ذلك بشكل مباشر في أوجه حياته المختلفة. 

هذه الصورة الكلية التي نتحدث عنها، أطلق عليها الباحثون وعلماء الاقتصاد اسم الوفورات الخارجية Externalities، أي وجود أثار للعلاقات الاقتصادية تتعدى الأثر المباشر على طرفي معاملة ما. فحين يتعلم طفل في مدرسة، لا ينحصر الأثر  في ما يحصل عليه الطفل من فائدة مباشرة وما تحصل عليه المدرسة من ربح نظير الخدمة، بل يتخطاه إلى أثر أكثر شمولاً وأهمية، منها وجود عمالة ماهرة مدربة مثلاً، أو معدلات جريمة أقل، أو تنمية أعلى على مدار السنوات اللاحقة. 

ولذا، وُلد مصطلح "الفشل السوقي" للتعبير عن عدم قدرة رأس المال وحده بتلبية الاحتياجات الهامة مجتمعياً، وعدم قدرته على إحداث الوفورات الخارجية الإيجابية المطلوبة للجميع، بما فيهم القادر على أداء الخدمة، مما يجعل تدخل الدولة حتمياً لملء هذا الفراغ الذي يتركه القطاع الخاص في نقاط حساسة اقتصادياً واجتماعياً. 

ولكن، ليس التعليم والصحة هم المجالين الوحيدين الذين يظهر فيهما الفشل السوقي واضحاً. فالوعي والإدراك وسلامة التكوين النفسي قد يكون حتى أكثر أهمية، وهو ما يتوقف بشكل مباشر على وجود "ثقافة" مجتمعية تدفع المجتمع للأمام وليس العكس. 

والحياة ليست جنة، دعونا نعترف أن المجتمع الواحد يمر بأوقات ازدهار وأوقات أخرى يفقد فيها بوصلته وتنهار قيمه بشكل ما.

وفي مثل تلك الأوقات، لو تُركت صناعة المحتوى الثقافي حصراً في يد رأس المال، فلن يقدم إلا ما يضمن له ربح مضمون وسريع، ولن يكون هناك اعتبارات – على الأغلب – لما يزج به إلى عقول المتلقين، أياً كان عمرهم أو توجههم.

فالمطلوب هنا هو بيع أكثر سلعة مرغوبة لأكبر عدد ممكن، ولتكن فيلم متدني المحتوى يقدمه متواضعو الموهبة، أو برنامج ذا محتوى علمي معقد عن الصناعات المتقدمة، لا يهم. فمن يحدد هنا هو المزاج العام للجمهور، وفارق القيمة بين الخيارين لا يعني صانعه في شيء. 

ما الحل؟

فالحل هنا لا يكون بنفس بساطة الحل في حالة الصحة والتعليم، وهو ببساطة تدخل الدولة لتقديم الخدمة في الثغرات التي يتركها القطاع الخاص.

فالفارق هنا، أن تدخل الدولة بشكل مباشر في صناعة المحتوى الثقافي هو أمر واسع المجال ولا توجد به حدود فاصلة واضحة متفق عليها. فهل يكون التدخل بالمنع مثلا لما هو غير لائق؟ أم يكون التدخل بصناعة محتوى منافس لذلك الذي قد يصنعه السوق؟ أم بوضع معايير بعينها يتبعها صانعو المحتوى الثقافي أيا كان؟

وكل هذه أمور مطاطة جداً، ولا يمكن الخوض فيها إلا بإيقاظ مخاوف عدة لدى كثير من صانعي الثقافة إذا جاز التعبير، من فنانين وكتاب وحتى مؤثرين على برامج التواصل الاجتماعي، ابتداءً بمخاوف تتعلق بحرية الإبداع وليس انتهاءً بمخاوف الاحتكار وغيرها، ناهيك عن صعوبة تحديد خط فاصل بين ما هو لائق وما هو غير لائق بالذات في المجتمعات المتنوعة ذات الأذواق والخلفيات شديدة التباين. 

فالأمر إذن يبدو كمعضلة لها توابع كبيرة لا تحل إلا بالدخول في معضلة أكبر بتوابع أكبر، ويبدو أن السؤال الذي سنطرحه كثيراً.. أيهما يجب استهداف تحسينه أولا؟ المحتوى الثقافي أم ذوق المتلقي ومعاييره؟ لا توجد إجابة نموذجية للأسف. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.