خلال المعركة التي يخوضها كوكب الأرض يومياً للحفاظ على شكل الحياة كما عهدناها، نجد توجهات عدة للحديث حول الاقتصاد الأخضر والاستثمارات الخضراء، والتي – باختصار – تعني الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية التي لها بعد بيئي، أي أنها تأخذ في الحسبان التكلفة البيئية والمناخية وتأخذ التزام الجنس البشري نحو الطبيعة بشيء من الجدية. 

وليست البنوك المركزية ببعيدة عن تلك الساحة التي تتسع بشكل كبير مؤخراً. فحديثا، أظهر استطلاع ل HSBC لعام 2021 اتساع رقعة البنوك المركزية التي أبدت اهتمام بالاستثمارات الخضراء خلال الفترة الأخيرة، حيث قام 43% من البنوك المركزية التي تم استطلاعها بشراء سندات خضراء. 

وقد أظهر الاستطلاع كذلك، أن المسئولين في 57 بنك مركزي أصول تقدر قيمتها بـ 3.8 تريليون دولار، كانوا يأخذون اعتبارات ذات بعد بيئي أو اجتماعي في عملية صنع القرار، أو على الأقل يخططون لأخذ مثل هذه الاعتبارات مستقبلاً في قراراتهم. 

فعلى سبيل المثال، وفقاً لبلومبرج، أًصبح التغير المناخي أحد أهم الجوانب التي يتم مناقشتها في المراجعة الاستراتيجية التي يقوم بها البنك المركزي الأوربي حالياً، بينما قام البنك المركزي السويسري العام الماضي باستبعاد مناجم الفحم من محفظة الأسهم الخاصة به، وصرح بنك اليابان المركزي كذلك أن "الاحتياج للتحرك في مجال تغير المناخ" أصبح مطروح في أجندته.  

وتتابع بلومبرج، أن نسبة البنوك المركزية التي تحمل في محفظتها سندات خضراء، تجاوزت نسبة تلك التي تحمل السندات المرتبطة بالتضخم Inflation Linked Bonds، وتلك التي تحمل الأدوات المالية أو سندات الرهن العقاري  Mortgage –backed Securities. 

فبشكل ما، يؤثر التغير المناخي على الاقتصادات المختلفة بشكل لا يمكن للبنوك المركزية تجاهله. وتشير صحيفة الفاينانشال تايمز، إلى أن أهم محاور عمل البنوك المركزية، وهي استقرار الأسعار، قد تكون مهددة أحياناً بسبب الاضطرابات المناخية، والتي كان يشار لها قديماً بفكرة الكوارث الطبيعية، وذلك قبل اتضاح قضية التغير المناخي كقضية مستقلة ومشكلة لها أبعادها الخاصة المرتبطة بشكل مباشر بالتدخلات والأنشطة البشرية غير المسؤولة، أو التي على الأقل، لا تأخذ البعد البيئي بنفس الجدية التي تأخذ بها اعتبارات الربح.  

فمثلاُ، تشير دراسات من المؤسسات المعنية بالتغيرات المناخية أن قضايا مثل الأحداث الجسيمة المرتبطة بتغيرات المناخ، ككوارثت وما شابه، أو قضية الاحتباس الحراري، لها أثر كبير وطويل الأجل على الإنتاج (حيث على سبيل المثال تتأثر رقعة الأراضي الصالحة للزراعة) والاستثمار (حيث يتم تخصيص المزيد من الاستثمارات لأغراض الحماية والحد من أثر المشاكل المناخية على حساب تخصيص الاستثمار لزيادة الإنتاجية)، إلى غيرها من آثار على المدى الطويل للعمالة والقطاعات الاقتصادية المختلفة. 

ولذا، هناك توجهات وتوصيات أن تقوم البنوك المركزية بحساب المخاطر المتعلقة بالمناخ أثناء اتخاذ قراراتها وإدارة محافظها وأداء مهمتها في الحفاظ على الاستقرار المالي، وذلك إذا فقط أخذنا في الاعتبار مجرد التقييم وإدارة المخاطر.

إلا أنه هناك خيار آخر وهو التدخل القوي في مجال الاقتصاد الأخضر بواسطة السياسة النقدية، كالانحياز في توفير الائتمان ورأس المال للأنشطة والمشروعات التي تدعم الانتقال لطاقة نظيفة، أو كتبني برامج التيسير الكمي الأخضر Green Quantitative Easing، والذي يتم في إطاره شراء البنوك المركزية للأدوات المالية الخضراء في برنامج شراء الأصول الذي تطبقه أثناء فترات التيسير الكمي. 

المشكلة الرئيسية التي تجدها البنوك المركزية هي الانخفاض النسبي للعائد على الأدوات المالية ذات البعد البيئي، خاصة في توقيت تواجه فيه البنوك المركزية تحدي قائم بالفعل مع التوسع في الحزم التحفيزية التي أوجبتها جائحة كورونا. 

إلا أن هذا التوجه سيكون له الكثير من الاهتمام بالذات بعد انحسار الجائحة، ولن يكون بعيد عن الدول النامية كذلك، تحديداً دول الشرق الأوسط، خاصةً تلك التي سيكون عليها الكثير من الالتزامات والمواءمات في قطاعات الطاقة لديها لتلحق بركب التوجه العالمي للحفاظ على البيئة، حيث ستجد تلك الدول نفسها في احتياج شديد لتطبيق العديد من السياسات سواء نقدية أو مالية بتوجه بيئي حقيقي لتحافظ على قدرتها على النفاذ لأسواق الائتمان العالمية وتواجدها في المحافل المختلفة. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

لقراءة مقال سابق لنفس الكاتبة:

استراتيجيات إدارة الدين العام.. هل يعمل زر إبطال القنبلة بكفاءة..؟ (2)

استراتيجيات إدارة الدين العام.. هل يعمل زر إبطال القنبلة بكفاءة..؟ 

كيف دخل السودان الحلقة المفرغة...؟  

لماذا خفضت موديز تصنيفها الائتماني لتونس؟ 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.