يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منهمك في مباراة شطرنج طويلة الأمد يحرك فيها القطع المختلفة على الرقعة متوقعاً كل ردود الفعل المتاحة من الخصم. فهو مستعد باستراتيجيات مختلفة تناسب كل حركة مقابلة، وهو ليس بجديد على الروس الذين برعوا في لعبة الشطرنج حيث الخطط والاستراتيجيات قصيرة وطويلة المدى حتى تربعوا على عرشها عالمياً. 

 لكن التساؤل الآن في أعقاب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية هو ماذا يدور في عقل بوتين؟ وهل يتسبب في إعادة رسم النظام المالي العالمي؟ 

 الافتتاحية الروسية والاستعداد للحرب 

مما لا شك فيه أن رجل بخبرة بوتين المخابراتية قام بوضع سيناريوهات عديدة قبل غزوه أوكرانيا وخصوصاً أنها في الحقيقة مواجهة بين روسيا من جانب ودول الغرب بقيادة أمريكا من جانب آخر. فنظرة سريعة على هيكل الاحتياطي الأجنبي لروسيا خلال الفترة الماضية. نرى أن حجم الذهب الذي تملكه روسيا قد ارتفع لـ 2,300 طن ليمثل أكثر من خمس الاحتياطي الأجنبي لها أو ما يعادل 132 مليار دولار أمريكي من أصل 630 مليار دولار أمريكي بنهاية يناير 2022، ويمثل أيضاً خامس أكبر مخزون في العالم من الذهب. 

الذهب الروسي يبقى في روسيا 

ليس هذا فحسب، بل تحتفظ روسيا برصيدها من الذهب في خزائنها داخل البلاد وهو من غير المعتاد حيث أن معظم البنوك المركزية العالمية تحتفظ برصيدها من الذهب في بنك إنجلترا بلندن أو بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، وهما مركزا سوق الذهب العالمي، حتى يسهل بيع الذهب حين الحاجة. إن احتفاظ روسيا بذهبها محلياً قد يجعل التصرف فيه صعباً، إلا أنه يشير حتماً إلى خطة مسبقة من روسيا لتجنب أي عقوبات يمكن أن تطولها أو تطول مخزونها من الذهب. بمعنى آخر، على ما يبدو روسيا كانت تستعد لحربها مع أوكرانيا منذ فترة. 

استخدام سلاح الطاقة 

مع امتداد الأزمة بين روسيا وأوكرانيا لقرابة الشهر والنصف حتى الآن، نجد أن سلاح الطاقة ساعد روسيا على الصمود أمام العقوبات الاقتصادية. فأوروبا لا تزال تعتمد بشكل كبير على الطاقة الروسية، حيث تستورد حوالي نصف صادرات النفط الخام الروسية مما كان من الضروري أن يتم السماح باستمرار تدفق الطاقة من روسيا لأوروبا، وهو ما منح روسيا مصدر مستمر للعملات الأجنبية. إن روسيا هي ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي وثالث أكبر منتج للنفط عالمياً بحوالي 11 مليون برميل يومياً تصدر منه حوالي 45%. وهو ما يفسر بدوره ارتفاع خام برنت لأكثر من 130 دولار أمريكي للبرميل الواحد بمجرد الإشارة إلى احتمال فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي. منذ أسابيع، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن قرار يحظر استيراد النفط والغاز من روسيا، لترد الأخيرة بوقف تصدير المنتجات والمواد الخام خارج روسيا حتى نهاية العام. فكل فعل له رد فعل عند بوتين فيما يمكن أن نسميه مباراة "تكسير عظام". 

دعم الروبل الروسية باستخدام الذهب 

مع انخفاض الروبل الروسية بنحو 40% حتى يوم 7 مارس — فقط بعد 11 يوم من اندلاع الحرب، اتخذت روسيا عدة قرارات جريئة لدعم عملتها المحلية مثل إجبار الدول "غير الصديقة" بشراء الطاقة منها بالروبل. ومؤخراً قام البنك المركزي الروسي بتثبيت سعر الروبل أمام الذهب عند 5000 روبل للجرام الواحد لمدة 3 شهور تنتهي بنهاية يونيو 2022 مما يعني سعر صرف ضمني يصل إلى 81 روبل لكل دولار أمريكي وهو سعرها قبل غزو أوكرانيا بيوم واحد. منذ 7 مارس، ارتفعت الروبل بأكثر من 85% لـ 84 أمام الدولار أي أنها قلصت خسائرها لفقط 3% منذ الغزو! بمعنى آخر، روسيا استخدمت مخزون الذهب الخاص بها كغطاء لعملتها. 

عودة نظام الذهب الدولي؟ 

إن استخدام الذهب كغطاء للروبل بهذا الشكل قد ينبئ عن نية بوتين في عودة نظام الذهب الدولي (المعروف باسم نظام بريتون وودز) الذي انهار في أوائل السبعينات. السبب؟ دعم الروبل الروسية باستخدام مخزون روسيا من الذهب ومواجهة أي هجوم على عملتها مثلما حدث في أعقاب الغزو. فاستقرار الروبل أمام الدولار يعني استقرار الوضع الاقتصادي داخل روسيا بينما تزال رحى الحرب ضد أوكرانيا تدور. ولكن هل تقبل الولايات المتحدة هذا التوجه أم ستضطر إلى اتخاذ قرارات مصيرية. 

أعتقد أن بوتين لا يزال في جعبته أكثر من حركة لكل قطعة في مباراة شطرنج طويلة الأمد. وستظهر كل حركة وفقاً لما يقتضي الوضع، عسكرياً، اقتصادياً، أو سياسياً. رأينا الحركات العسكرية وأيضاً الاقتصادية لكننا لم نر حتى الآن الحركات السياسية التي بدونها ستبقى المخاطر الجيوسياسية عالية، بل وقد تتسبب في توسيع رقعة الشطرنج لتشمل دول أخرى بجانب أوكرانيا التي تورطت في حرب بالوكالة ليصبح الخطر الأكبر هو اندلاع حرب عالمية ثالثة، وهو ما لا نتمناه.  

(إعداد: عمرو حسين الألفي، المحلل المالي بزاوية عربي ورئيس قسم البحوث في شركة برايم لتداول الأوراق المالية في مصر وهو حاصل على شهادة المحلل المالي المعتمد "CFA") 

(للتواصل: yasmine.saleh@lseg.com) 

#مقالرأي