مع تزايد طوابير انتظار المرضى الذين يتلقون علاجهم في المستشفيات والمستوصفات الحكومية والخاصة، واتجاه المملكة نحو تطوير هذا القطاع بمشاريع خصخصة منتظرة، وبرامج تدريب واستقطاب للكوادر والشركات الصحية في كافة المجالات المحلية والأجنبية، بما فيها شركات التأمين التي حظيت منذ انطلاقتها في السوق المحلية بمزايا ومكاسب لا تتوافر لنظيراتها في الأسواق المجاورة، نقول إنه ومع كل تلك الخطط الطموحة إلا أن زيارة واحدة لمكاتب شركات التأمين الصحي في المملكة أو تجربة واحدة مع إحدى تلك الشركات، تعطيك انطباعا مباشرا بأن المشوار طويل، لمعالجة الخلل الدائر في هذه السوق، وهو كسر الخط الفارق بين العمل التجاري والعمل الصحي، الذي تلتزم به كل شركات التأمين الصحي في العالم، تحت شعار "الرعاية للجميع" حتى الموت.. بل أحيانا إلى ما بعد الموت، من قبيل ترتيب مراسم الدفن وغيرها، فيما شعار شركات التأمين الصحي في المملكة وفق متعاملين ومتخصصين "المال" أولا ثم صحة المستفيدين.


في بريطانيا مثلا، رغم أن نظامها الصحي يكفل العلاج للجميع من قبل مستشفيات الحكومة، إلا أن قطاعا ملحوظا ومتزايدا من المجتمع بات يتجه أكثر فأكثر إلى التأمين الصحي الخاص، لضمان تلقي مستوى أعلى وأسرع من الرعاية الصحية.


"الاقتصادية" التقت الدكتور آر. إل. جون المشرف العام السابق على قطاع التأمين الصحي في المملكة المتحدة، ليعطينا لمحة عن سوق التأمين في تلك السوق العريقة.


يقول الدكتور جون "إن أي فرد في المملكة المتحدة يمكن أن يحصل على خدمة التأمين الصحي الخاص، طالما كان قادرا على دفع التكلفة، ونتيجة تمتع السوق بمنافسة نسبية بين الشركات فإن تكلفة التأمين الصحي الخاص للشخص البالغ من العمر 35 وفي حالة صحية جيدة تبلغ في المتوسط 650 جنيها استرلينيا سنويا، وبالنسبة إلى من هم في سن السبعين 2300 استرليني سنويا، وليس هناك عمر محدد".


وحول العلاقة بين الأطباء وشركات التأمين الصحي الخاصة، يؤكد الدكتور جون أن الهدف من التأمين الصحي الخاص أن يتمتع المريض برعاية صحية أفضل، لكن هذا لا يعني أن يتواطأ الأطباء في القطاع الحكومي مع شركات التأمين، وذلك عن طريق عدم تقديم الرعاية الصحية اللازمة للمريض لدفعه للتوجه إلى التأمين الصحي الخاص، أو أن يوجد الطبيب الحكومي أجواء تحث المريض على الحصول على هذا النوع من التأمين، مقابل حصول الطبيب على نسبة مالية من الشركات التي يتم التسجيل فيها.


ويضيف "هذا يعد جريمة، وفي عام 2015 كانت هناك فضيحة كبرى في بريطانيا تورط فيها بعض الأطباء بالسعي لإقناع مرضاهم بأهمية التأمين الخاص، والحصول على عمولة مالية من شركات التأمين، وقد أسفرت التحقيقات عن طردهم من سجلات الأطباء".. وعند هذه النقطة البراقة من تلك السوق انتقلنا إلى السوق المحلية، التي أكد عدد من المختصين أنها بحاجة إلى إعادة هيكلة تبدأ من التشريعات وطرق الإدارة إلى الرقابة والمعاقبة.. التقرير تطرق إلى تلك المخالفات وقارنها بالسوق البريطانية وخرج بالتالي:


يقول الدكتور جون "النظام الصحي الحكومي في بريطانيا يضمن الرعاية الصحية لكل شخص يقيم بشكل دائم على أراضي المملكة المتحدة، لكن هناك بعض أنواع العلاج التي يمكن أن يدفع لأجلها المواطن مقابلا ماليا، مثل اللقاحات التي تؤخذ عند السفر إلى الخارج، والكشف على العيون، وعلاج الأسنان، لكن التأمين الصحي الخاص خيار شخصي للمواطن، ولا يعني امتلاك المواطن البريطاني تأمينا صحيا خاصا حرمانه من حقه في الحصول على خدمة طبية من الدولة".


وعن قطاع التأمين الصحي، يقول "في الحقيقة إن التأمين الصحي الخاص في المملكة المتحدة ليس منتشرا بشكل كبير بسبب الخدمات التي تقدمها الحكومة، إلا أن أعداد المسجلين في شركات التأمين تنمو طلبا لرعاية أفضل وأكبر".


وبالعودة إلى السوق السعودية، فإن عددا من المختصين الذين تحدثوا لـ "الاقتصادية" كشفوا عن تزايد الممارسات الخاطئة من قبل المستشفيات وشركات التأمين الصحي في السعودية، مؤكدين أن ذلك أثر في محاولة النهوض بقطاع التأمين الصحي في المملكة، متوقعين إفلاس شركات تأمين خلال الفترة المقبلة، مع تطبيق رفع تغطيات شركات التأمين لتسع منافع بتاريخ 1/7/2018 في ظل عدم رفع تسعيرة بوليصات التأمين.


ويقول المختصون "المستشفيات ترفع فواتير المطالبات لشركات التأمين، وشركات التأمين تتلاعب بخفض فواتير المطالبات، وهو ما دفع كلا الطرفين إلى الممارسة الربحية، متجاهلين صحة المرضى، في ظل ضعف الجهات الإشرافية والرقابية لتطبيق الإجراءات اللازمة على المخالفين".


بعض المختصين يحملون مجلس الضمان الصحي مسؤولية عدم وقف حرب الأسعار الدائرة بين شركات التأمين الصحي إلى جانب ارتفاع أسعار الخدمات الصحية ورفض الشركات معالجة عشرات من قائمة الأمراض والامتناع عن تغطية من تجاوز سن الستين.


وأوضح مختص في التأمين، فضل عدم ذكر اسمه، أن التأمين الطبي يحتاج إلى جهة إشرافية حازمة في تطبيق الأنظمة، خاصة أن مجلس الضمان أثبت أنه غير مؤهل للإشراف على التأمين الصحي، فما نشاهده من تصاعد من أسعار الخدمات الطبية بشكل سنوي، دليل على خلل في الأداء، والسؤال كيف سيكون الوضع عند خصخصة القطاع! مشيرا إلى أن خصخصة القطاع في ظل أداء مجلس الضمان الصحي سيرفع معدلات التضخم في هذا القطاع بشكل كبير.


ولنربط هذه التجاوزات المتعددة بأداء شركات التأمين الخاص في السوق البريطانية، يقول المشرف السابق على هذا القطاع في بريطانيا "الأمر يتوقف على نوعية البوليصة التأمينية التي اشتراها المريض، ولكل شخص الحق في إلغاء البوليصة التأمينية خلال 14 يوما من توقيعها دون أي غرامات، والإجراء المعتاد أنه في الحالات الاعتيادية يتصل المريض أولا بشركة التأمين التي تحوله إلى الطبيب خلال فترة وجيزة لا تتجاوز أياما معدودات، فإذا كان الأمر يتطلب مزيدا من الفحوصات، فإن الطبيب يتصل بشركة التأمين لمعرفة ما إذا كانت البوليصة تغطي التكلفة المالية لتلك الفحوصات أم لا، وعليه أن يحصل على إجابة سريعة للغاية، وأحيانا يحصل عليها في التو واللحظة".


أما بالنسبة إلى العمليات الجراحية الكبيرة والمكلفة فإن الأمر ربما يتطلب بضعة أيام لرد الشركة على المريض، لكن دون أن يكون لذلك أي تأثير أو خطر على حياته.


ويضيف "ربما أبرز مميزات الرعاية عبر تغطية تأمينية خاصة في بريطانيا هو أنك تتفادى طوابير الانتظار التي تتزايد يوما بعد آخر، كما يمكن عرضك على إخصائي بشكل أسرع، ويحتمل أيضا أن تلقى رعاية طبية أفضل نسبيا سواء عبر استخدام أدوات تشخيص وعلاج أكثر حداثة، أو مزيد من الخصوصية في الخدمات العلاجية مثل غرفة لكل مريض، وغيرها من المزايا التي تكون محور التنافس بين شركات التأمين الصحي".


وبخصوص إجراء الطبيب فحوصات أو صرف أدوية محددة بهدف الكسب المادي في السوق السعودية، أكدت لـ "الاقتصادية" وزارة الصحة، أن ذلك يعد مخالفا، حيث إن نظام مزاولة المهنة نص على أن عمل الممارس الصحي يجب أن يستهدف مصلحة المريض.


وقالت "الصحة"، "إنه سبق أن أصدرت الوزارة تعميما بالتقيد بالاسم العلمي للأدوية في الوصفات الطبية، وهذا يمنع اختيار أدوية بعينها، كما أنه يمكن للمريض اختيار البديل المناسب من خلال الصيدلي المختص بصرف مثل تلك الأدوية".


وأوضحت وزارة "الصحة" أنها تنفذ باستمرار جولات رقابية على جميع المؤسسات الصحية للتأكد من عدم وجود هذه الممارسات المخالفة أو غيرها، فيما تتلقى الوزارة جميع البلاغات على مركز الاتصال 937 عن أي مخالفات في هذا الصدد، وتتعامل معها بكل جديدة، ولا تغلق البلاغ إلى بعد أن تتم معالجة تلك المخالفة.


مختص في قطاع التأمين فضل عدم ذكر اسمه أيضا، يقول "للأسف عدد المستشفيات الخاصة أقل بكثير من المطلوب وعدد المؤمنين أعلى من الطاقة الاستيعابية لهذه المستشفيات، ما يجعل المستشفيات تمارس الضغط على شركات التأمين والمرضى، فأسعار المستشفيات مرتفعة بمعنى أن المستشفيات تبني أرباحا من شركات التأمين، لذلك لا بد من دور رقابي على المستشفيات من قبل مجلس الضمان الصحي وفرض العقوبات والغرامات على الطرفين، سواء شركات التأمين أو المستشفيات".


ويضيف "بعض الممارسات المخالفة للنظام، مثل رسوم الكشف بحسب بوليصة التأمين الصحي، أن الطبيب العام 50 ريالا، رغم ذلك لا يوجد أي مستشفى بهذا السعر، فلماذا التناقض، لا بد من وضع لائحة في مكان بارز في المستشفيات توضح أسعار بوليصة التأمين، للأسف أصبحت المستشفيات هي التي تحدد الأسعار، فمن الضروري أن ترفع مع كل ترخيص يصدر للمستشفيات قائمة الأسعار لتتم الموافقة عليها من الضمان الصحي، إضافة إلى كميات الأدوية التي تصرف للمريض من قبل الأطباء".


ويتابع "هناك اتفاقات تبرم بين الشركات والأطباء بصرف نوع معين من الأدوية، إضافة إلى أن الأطباء يصرفون الأدوية بشكل مبالغ للمريض، مع عدم مراعاة تأثير ذلك في المريض، ناهيك عن الإشاعات التي تُطلب بشكل متكرر وبمبالغ باهظة دون مراعاة لصحة المريض وتأثير هذه الأشعة في المريض".


وقال "إن الدول المتقدمة تمنع تعرض المريض للأشعة بشكل متكرر، محددة أقل فترة زمنية ستة أشهر بين أشعة وغيرها لما لهذه الأشعة من تأثير في صحة الإنسان.. وللأسف المستشفيات تطلب الأشعة بشكل عشوائي، وهو ما يرفع الإصابة بمرض السرطان".


وحول احتكار المستشفيات، قال "العمل يقوم على تضارب المصالح، وهو مخالف لنظام التأمين سواء من مؤسسة النقد أو وزارة التجارة، الذي ينص على أنه ليس من حق شركات التأمين أن تمارس نشاطا غير التأمين وما يتعلق بالتأمين، وألا تمارس الأعمال التي تخدم أعمال التأمين مثل المستشفيات للتأمين الصحي وورش السيارات لشركات تأمين المركبات، اقتصاديا لا يجوز أن يكون هو المستفيد والمسيطر.


ونظاما يمنع أن تدخل شركات التأمين بتملك مستشفيات لأنها تعارض مصالح، ومخالف للمرسوم الملكي، إلا أن ذلك يحدث في السوق".


وشدد على ضرورة إعادة هيكلة مجلس الضمان الصحي، حتى يتمكن من أداء مهامه بأكمل وجه، خاصة أن القطاع مقبل على خصخصة، فارتفاع أسعار الخدمات الطبية بشكل متسارع يؤثر في شركات التأمين ويوقعها في خسائر كبيرة، خاصة أن بواليص التأمين في المملكة من أفضل البوالص عالميا من ناحية التغطيات، لكن الأسعار تخضع للخبير الاكتواري، الذي يعتمد على حساب تكاليف المستشفيات، ما سيعمل تصاعدا مستمرا بدون تقديم خدمة جيدة، لذلك قطاع التأمين في المملكة غير جاهز لخصخصة القطاع الصحي.


سامي العلي عضو اللجنة الوطنية لشركات التأمين يرد على المختصين، بأن "قطاع التأمين الصحي يعاني حرب الأسعار وأن شركات التأمين هي التي تعاني، والدليل الخسائر المتراكمة".


وقال "رفع مجلس الضمان الصحي التغطيات لتشمل تسع تغطيات، صرف حليب الأطفال مدة 24 شهرا، عملية التكميم، علاج الحالات النفسية الحادة وغير الحادة، برنامج تشوهات القلب الخلفية لجميع المواليد، والفحص المبكر للإعاقة السمعية، والتحصين ضد فيروس الالتهاب التنفسي، ومعالجة أمراض الأسنان واللثة شاملة تكاليف تنظيف الأسنان لمرة واحدة، الحالات التي تحتاج إلى عزل والصدفية، جميعها منافع مكلفة ستطبق بتاريخ 1/7/2018، بمعنى أن مجلس الضمان منح شركات التأمين مهلة لتعديل قائمة أسعار بوليصة التأمين".


وأشار إلى أن استمرار بوليصة التأمين بنفس الأسعار السابقة سيدفع شركات التأمين إلى الإفلاس بشكل سريع، فالتغطيات المضافة تعد خدمات صحية مكلفة، فمن غير الممكن عدم رفع الأسعار، وهو ما يؤكد استمرار حرب الأسعار.


عدنان خوجة عضو سابق في اللجنة الوطنية للتأمين في الغرفة التجارية الصناعية في الرياض، يؤكد أن الثقة معدومة بين شركات التأمين ومقدمي الخدمات الصحية، مشيرا إلى أن هناك شركتي تأمين مستحوذتين على القطاع الصحي، مطالبا بضرورة تفعيل دمج شركات التأمين قبل خصخصة القطاع، حتى تصبح شركات أخرى منافسة في السوق التي تتجه إلى مزيد من الانفتاح على الشركات الأجنبية.


من جانبه، يقول وليد الأصمغ متعامل بالتأمين "قلة المستشفيات الخاصة في المملكة سبب رئيسي في رفع أسعار الخدمات المقدمة، وبالتالي تضغط على شركات التأمين، فالأرباح التي تحققها المستشفيات كبيرة، إضافة إلى ما يمارس الآن من شبه مافيا على الأدوية من قبل الشركات، التي تبرم اتفاقيات مع أطباء أو صيدليات بالترويج عن منتجاتها بشكل كبير، مستغلين عامل ثقة المريض بالأطباء".


وأشار الأصمغ إلى أن المستشفيات تعلم وتثق يحاجة شركات التامين إليها، لذلك تقوم برفع الأسعار والضغط على الأطباء بالاستفادة من المرضى، مشيرا إلى أن أكثر من 70 في المائة من دخل المستشفيات قائم على المؤَمِّنين – على حد قوله -.


والختام مع المختص البريطاني في مجال التأمين الصحي الخاص حول العقوبات على الأطباء وشركات التأمين الصحي في بريطانيا إذا ما تواطأت أو جعلت المريض ضحية تلاعب مالي، إذ قال "إن مجرد تأخر الأطباء في المستشفيات في معالجة المريض بشكل ينم عن تلاعب، أو وصف أنواع معينة من الأدوية باهظة الثمن دون أخرى لإيجاد طلب مفتعل عليها، تعد إجراء قد يؤدي إلى سحب ترخيص ممارسة المهنة، وربما السجن".


أخيرا، نظرا لتطرق التقرير إلى مجلس الضمان الصحي في كثير من المواقع وتحميل عدد من المختصين مسؤولية ما يجري في القطاع لها، فقد تم التواصل مع المجلس والمتابعة معهم لأكثر من أسبوع، دون الحصول على رد حتى ساعة إعداد هذه التقرير، والصحيفة تكفل حق الرد لها في أي وقت تشاء.

© الاقتصادية 2018