زاوية عربي

من إسراء أحمد، محللة اقتصادية بزاوية عربي 

ناولني العامل الشاب بحذر كوب ورقي مليئ بالقهوة ذات الرائحة المميزة، فشكرته بصوت أعلى من المعتاد، حيث أن القناع الطبي الذي أرتديه يكتم الأصوات لحد ما.

كان صباح هادئ نسبياً في أحد أيام "التعايش" مع فيروس كورونا، وعلى ما يبدو لن يكون الأمر سهل. فكيف تشرب قهوتك وأنت ترتدي قناع طبي..؟ إلا أن قرار التعايش مع الفيروس لفتح شرايين الاقتصاد المسدودة منذ أشهر يبدو أنه أصبح أمر ضروري. 

يعتمد الاقتصاد كنشاط بشري مشترك قائم على التعاملات الإنسانية على عنصر الثقة في المقام الأول.

الثقة في المستقبل، في رؤية الحكومة، في شركاء التجارة، في استمرار النمو الاقتصادي، واستمرار الحياة على نحو جيد. بينما يلعب الغموض دور قاس للغاية واسأل عنه أي بائع في محل بقالة. 

 ومع قرارات التعايش مع كوفيد-19، والذي ألقى على سكان الأرض بظلال كثيفة من الخوف والغموض، دعونا نذكر أنها ليست المرة الأولى التي مر بها الاقتصاد العالمي بأيام مشابهة، خيمت عليها أجواء الخوف إثر مرور زائر غير مرحب به، إلا أن فايروس كوفيد-19 تربع على عرش الاهتمام العالمي لانتشاره الأوسع عالمياً، وحيث تجاوزت وفاياته حتى لحظة كتابة هذا المقال630  ألف إنسان في نصف عام تقريباً، متجاوزا خسائر أنفلونزا الخنازير على سبيل المثال والتي أودت بحياة عدد مشابه، وربما أقل، في عام كامل، حيث تراوحت وفايات انفلونزا الخنازير بين 151 ألف و575 ألف إنسان حسب المركز الأمريكي لمكافحة الأمراض CDC. 

 وقد أعاد كوفيد-19 إلى الأذهان قصة جائحة مشابهة زارت البشرية منذ مائة عام تقريباً، فدعونا نتذكر – بينما نحتسي القهوة – كيف كانت الأجواء الاقتصادية حينها. 

يمكن للمقال أن ينتظر حتى تقوم بعمل قهوتك ان لم تكن في يدك بالفعل! 

الأنفلونزا  الأسبانية.. 

خلفية  سريعة  عن  زائر  غير  مرغوب  فيه.. 

بالتأكيد هي ليست المرة الأولى التي يثار فيها تاريخ الأنفلونزا الأسبانية والتي سلطت عليها الأضواء مؤخراً كتجربة واقعية لوباء اجتاح العالم في التاريخ الحديث، وتحديداً في 1918 – 1919، حيث أصاب حوالي نصف مليار إنسان قتل منهم خمسين مليون،2.1% من سكان الأرض في ذاك الوقت في ثلاث موجات متتالية. بشكل أكثر تفصيلاً، بدأت الموجة الأولى في ربيع 1918، والتي تزامنت مع أحداث الحرب العالمية الأولى وهو ما أدى إلى انتشارها بشكل أكبر. وجاءت الثانية في خريف وشتاء نفس العام، من سبتمبر 1918 إلى فبراير 1919، وكانت تلك الموجة هي الأكثر قسوة، واستمرت الثالثة على مدار عام 1919.

ووفق بعض الدراسات، تسببت الأنفلونزا الأسبانية في أعلى أرقام وفايات سببتها كارثة طبيعية في التاريخ الحديث، إذا ما تغاضينا طبعاً عن أوبئة العصور الوسطى والتي كانت أكثر فتكاً إذا تحدثنا عن نسبة الضحايا إلى إجمالي سكان الأرض. وقد نجا عدد من الشخصيات المشهورة من الأنفلونزا الأسبانية مثل الأديب فرانز كافكا، ووالت ديزني، بينما لم يكن فريدريك ترامب رجل الأعمال أسعد حظاً حيث قتلته الجائحة، وهو جد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بالمناسبة. 

كيف  ترك  الزائر  بصمته  على  الاقتصاد؟ 

حاولت بعض الدراسات تقييم أثر الأنفلونزا الأسبانية على الاقتصاد العالمي، رغم ندرة البيانات الدقيقة لتلك الفترة، وكذلك تداخل أثر الجائحة مع الآثار الاقتصادية للحرب العالمية الأولى والتي استمرت من 1914 إلى 1918. 

ولكن وجدنا  بعض الأمثلة: مثلاً، أشار بحث نشره المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية في الولايات المتحدة في إبريل 2020 إلى انخفاض الناتج المحلي العالمي والاستهلاك في الدول المختلفة بحولي 6% و8%  بالترتيب خلال المدة من 1918 إلى 1920، إلى جانب تضرر رأس المال البشري لسنوات لاحقة، حيث – على غير المتوقع وعكس كورونا – كانت معدلات الوفايات أعلى في الفئة العمرية بين 18 و40 عام، أي الفئة العمرية الأقدر على مباشرة النشاط الاقتصادي والعمل. 

 كذلك تسببت تلك الجائحة في مضاعفات صحية ونفسية للجيل الذي ولد خلال فترة الإصابات، وهو ما كان له أثره كذلك وإن كان يصعب قياسه كمياً، بحسب بحث نشره بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس في 2007. وبحسب البحث الذي أشرنا إليه سابقاً كانت تلك الجائحة في المركز الرابع من حيث التأثير السلبي على الاقتصاد بعد الحرب العالمية الثانية، الكساد الكبير في مطلع الثلاثينات، ثم الحرب العالمية الأولى. 

زوار  آخرون.. 

ليست الأنفلونزا الأسبانية هي الوحيدة، وإنما شهدت البشرية عدد من الزوار غير المرغوب بهم منها الأنفلونزا الآسيوية في أواخر الخمسينات، وأنفلونزا هونج كونج في أواخر الستينات من القرن الماضي، وكذلك لم يخل القرن الحادي والعشرين من المفاجأت غير السارة مثل فيروس سارس في 2002-2003، أنفلونزا الطيور في 2003، أنفلونزا الخنازير في 2009.

وفي كتاب أصدره البنك الدولي مؤخراً، أشار الباحثون أن الجائحات التي شهدتها البشرية منذ مطلع الألفينات أدت لانخفاض الإنتاجية الفردية بحوالي 4% تراكمية بعد ثلاث سنوات من ظهورها. 

ماذا  عن  الزائر  الحالي؟  

أشار البنك الدولي في كتابه إلى النواحي المختلفة لتأثير الأوبئة والجائحات على الاقتصاد من خلال عدة نقاط وهي:

(1) تأثيرها على القوة العاملة، فمع الاحتياج للتباعد الاجتماعي، يصعب أن تحتفظ العمالة بكامل قوتها كعدد وجودة. 

 (2) ارتفاع تكلفة الائتمان. 

 (3) تسارع خروج رؤوس الأموال من الدول التي تحتاج رؤوس أموال أجنبية لتحقيق النمو. 

 (4) انخفاض الإنفاق في الأقسام البحثية والتنموية للشركات والتي تعتبر مهمة لتحقيق التطوير والتنافسية المطلوبة.  

ومن ناحية أخرى، يتأثر جانب الطلب وهو الجانب الواضح حتى للمواطن العادي، من خلال الآتي: 

 (1)  استثمار أقل من جانب الشركات 

 (2) ضعف الطلب الاستهلاكي، وهو نتيجة طبيعية لارتفاع البطالة في ظل انخفاض الوظائف، وارتفاع تكلفة القروض، وانخفاض الدخول المتاحة للإنفاق. 

 ففي وجود جائحة، يصعب مثلا أن يقوم الفرد بالتخطيط لعطلة ما، أو يشتري سيارة جديدة، بل يفضل أن يحتفظ بما لديه من مال لاحتياج محتمل لتلقي خدمة رعاية صحية مثلاً أو لتغطية نفقاته في حال اضطر مكان عمله لتخفيض العمالة. ناهيك عن أن فكرة التباعد الاجتماعي هي بالتعريف تتعارض مع قطاعات برمتها مثل النقل، السياحة والترفيه وغيرها. 

الجميع  سيعبر  الأزمة...  ولكن  بديون  أكبر: 

وكضيف غير مرغوب فيه، جاء كوفيد-19 في توقيت حرج للاقتصاد العالمي. 

 حيث حذر الاقتصاديون والمؤسسات العالمية من تزايد الديون عالمياً قبل قدومه، وخاصة في الدول الناشئة، حيث شهدت خلال العشر سنوات الأخيرة – وفق ما يقول صندوق النقد الدولي – أسرع وأقوى موجة من تزايد مستوى الديون خلال خمسين عام. 

 وبينما يزداد الاحتياج لحزم التحفيز المالي وزيادة الإنفاق الحكومة لحفز الطلب الكلي وإنقاذ الاقتصاد من الانزلاق لهوة الكساد، من المتوقع أن تتحمل المالية العامة لجميع الدول عبءً ثقيل، وسيزداد الاحتياج للاقتراض، وستصبح مفاوضات تأجيل السداد وإعادة جدولة المديونيات أمر عادي و حتى شبه حتمي، خاصة للدول التي لم تتمتع بموقف مالي صلب قبل اندلاع الأزمة. 

ولنكن واقعيين، طالما أطال الزائر بقاءه واستمرت الجائحة، فالأولوية في الإنفاق هي لقطاع الصحة لإنقاذ الأرواح والحفاظ على الحياة الإنسانية. 

 ومع الفتح التدريجي، يرى صندوق النقد الدولي أن يأخذ صانعو المالية العامة اعتبارات أخرى في الحسبان تهدف لتحفيز الطلب الكلي، من خلال استهداف القطاع العائلي والأفراد، ربما بتوسيع دائرة برامج الدعم، وذلك لتمكينهم من تحريك عجلة الطلب على السلع والخدمات مجدداً، وتكون تلك الخطوة ذات أهمية خاصة في الدول التي يتميز اقتصادها بقطاع غير رسمي واسع لحد ما.  

وحتى ذلك الحين، وحتى نتمكن من شراء القهوة بدون أقنعة طبية، لابد أن نعترف أنها ليست بالمرحلة السهلة على البشرية، لا اقتصادياً ولا اجتماعياً ولا علمياً، ولكن لا يسع بني البشر إلا التعلم لتجاوز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة لتستمر الحياة. 

(عملت إسراء سابقاً كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدد من الوزارات المصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة.

© ZAWYA 2020

إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى الأصلي
تم كتابة محتوى هذه المقالات وتحريره من قِبل ’ ريفينيتيف ميدل ايست منطقة حرة – ذ.م.م. ‘ (المُشار إليها بـ ’نحن‘ أو ’لنا‘ (ضمير المتكلم) أو ’ ريفينيتيف ‘)، وذلك انسجاماً مع
مبادئ الثقة التي تعتمدها ريفينيتيف ويتم توفير المقالات لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقترح المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية أي استراتيجية معيّنة تتعلق بالاستراتيجية الأمنية أو المحافِظ أو الاستثمار.
وبموجب الحد الذي يسمح به القانون المعمول به، لن تتحمّل ’ ريفينيتيف ‘، وشركتها الأم والشركات الفرعية والشركات التابعة والمساهمون المعنيون والمدراء والمسؤولون والموظفون والوكلاء والمٌعلنون ومزوّدو المحتوى والمرخّصون (المشُار إليهم مُجتمعين بـ ’أطراف ريفينيتيف ‘) أي مسؤولية (سواءً مجتمعين أو منفردين) تجاهك عن أية أضــرار مباشــرة أو غيــر مباشــرة أو تبعيــّة أو خاصــة أو عرضيّة أو تأديبية أو تحذيريّة؛ وذلك بما يشمل على سـبيل المثـال لا الحصـر: خسـائر الأرباح أو خسارة الوفورات أو الإيرادات، سـواء كان ذلك بسبب الإهمال أو الضـرر أو العقـد أو نظريـات المسـؤولية الأخرى، حتـى لـو تـم إخطـار أطـراف ’ ريفينيتيف ‘ بإمكانيـة حـدوث أيٍ مـن هـذه الأضرار والخسـائر أو كانـوا قـد توقعـوا فعلياً حدوثهـا