في موضوعين سابقين، تناولنا باختصار شديد أهم أوجه الضعف التي أدت بالاقتصاد اللبناني إلى حيث يقف الآن، محاولين أن نمسك بأهم المشاكل التي ألمت به من النواحي المختلفة. ففي الموضوع الأول شرحنا كيف أن القطاع الحقيقي، الناتج المحلي والقطاعات المسيطرة عليه كانت غير متوازنة إلى حد بعيد، بما أدى إلى ما ناقشناه في الجزء الثاني وهو عجز كبير في الحساب الجاري اللبناني وبالأخص الميزان التجاري السلعي واعتماد الدولة وقطاعها المصرفي على السياحة والتحويلات والودائع بدون وجود مصدر مستدام وأكثر ثباتاً للعملة الأجنبية. هنا والآن، نستكمل ما بدأناه بتسليط الضوء على جوانب أخرى في الاقتصاد اللبناني بالأخص قطاع المالية العامة والموازنة أو بمعنى أدق: موارد الدولة وكيف تتم إدارتها. 

لقراءة الأجزاء السابقة ومواضيع أخرى عن أزمة لبنان:

لبنان.. ما الذي يحدث وما الحل؟

الورقة الثالثة: كيف بلغت الديون أنوف اللبنانيين..؟ 

لنعود للبديهيات إذن. تقتضي السلامة المالية للدولة وموازنتها العامة، أن يكون هناك نشاط اقتصادي وتوسعات واستثمارات، تستطيع الموازنة من خلاله أن تحصل باستمرارية على إيرادات عامة (ضرائب على الأغلب)، تنفقها على أولويات المواطنين والدولة بما يؤمن المناخ المناسب لاستمرار النشاط الاقتصادي، وهكذا. ولا يكون هنا زيادة موارد الموازنة بزيادة العبء على المواطنين، ولكن ترتفع الحصيلة الضريبية تلقائياً مع انتعاش وتوسع النشاط الاقتصادي. 

اتساع عجز الموازنة ودخول الدائرة المفرغة.. 

ولكن، مع اختلال تلك الأساسات، تنهار سلامة المالية العامة تدريجياً. فمثلا، مع تدني معدلات النمو وتراجع النشاط الاقتصادي، تنخفض قدرة الدولة على تحصيل ضرائب (ونعني هنا الضرائب المفروضة بالفعل دون فرض ضرائب ورسوم جديدة أو رفع معدلات الضريبة). ومع استمرار الإنفاق العام وتراجع الإيرادات أو عدم نموها بشكل كافي، يؤدي ذلك لاتساع عجز الموازنة، ما يؤدي لزيادة الاقتراض، والدخول في دائرة مفرغة تسمى عدم الاستدامة المالية، وهو ما حدث في الحالة اللبنانية. حيث ارتفع عجز الموازنة حتى تجاوز الـ 11% في 2018. 

>

 

>

 

عادةً، يعتبر العلاج التقليدي لتلك الدائرة المفرغة هو الروشتة الموحدة للمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، ببرنامج ضبط مالي يستهدف رفع الإيرادات وخفض النفقات وتحقيق مستهدفات معينة للموازنة على المدى المتوسط. ولذا، كانت هناك محاولة من الحكومة اللبنانية لزيادة الموارد، وهو ما قامت به في 2019 برفع الضرائب على فوائد الودائع من 7% إلى 10%، وزيادة معدلات الضريبة على الدخل للشرائح العليا من 20% إلى 25%، وكذلك زيادة الضريبة الجمركية بـ3%. ولخفض النفقات، حاولت الحكومة كذلك تقييد زيادات الرواتب لموظفي القطاع العام وخفضت مشترواتها الحكومية من السلع والخدمات. 

تلك الدائرة المفرغة التي شرحناها، لا تكتمل إلا بالاقتراض المتزايد. فزيادة عجز الموازنة وتراجع الإيرادات الطبيعية للدولة مع تراجع النشاط الاقتصادي، يؤدي بها للاحتياج للاقتراض عام بعد عام، وتتوجه موازنة الدولة لاحقاً لسداد مدفوعات الفوائد بدلاً من الإنفاق في أوجه استثمارية أو بنية تحتية تساعد على النهوض بالنشاط الاقتصادي بل وتسوء حالة المرافق والخدمات العامة المقدمة للمواطنين. 

فعلى مدار الفترة من 2010 إلى 2020، ارتفع الدين العام اللبناني من 52.6 مليار دولار إلى 93 مليار دولار، مسجلا أكثر من 170% من الناتج المحلي الإجمالي، وتلتهم مدفوعات الفوائد أكثر من نصف الإيرادات العامة في الموازنة اللبنانية.  

 

>

ويذكر البنك الدولي في تقرير حديث له عن لبنان، أن الاقتصاد اللبناني يحتاج إلى تحقيق نمو اقتصادي بـ 4% على الأقل سنوياً في المدى المتوسط لترجع الأمور إلى نصابها، مع معدل تضخم 3% على الأقل.

كانت هذه باختصار شديد أهم مشكلات المالية العامة اللبنانية، ولكنها ليست الورقة الأخيرة. 

 

(وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة

 

© ZAWYA 2020

إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى الأصلي
تم كتابة محتوى هذه المقالات وتحريره من قِبل ’ ريفينيتيف ميدل ايست منطقة حرة – ذ.م.م. ‘ (المُشار إليها بـ ’نحن‘ أو ’لنا‘ (ضمير المتكلم) أو ’ ريفينيتيف ‘)، وذلك انسجاماً مع
مبادئ الثقة التي تعتمدها ريفينيتيف ويتم توفير المقالات لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقترح المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية أي استراتيجية معيّنة تتعلق بالاستراتيجية الأمنية أو المحافِظ أو الاستثمار.
وبموجب الحد الذي يسمح به القانون المعمول به، لن تتحمّل ’ ريفينيتيف ‘، وشركتها الأم والشركات الفرعية والشركات التابعة والمساهمون المعنيون والمدراء والمسؤولون والموظفون والوكلاء والمٌعلنون ومزوّدو المحتوى والمرخّصون (المشُار إليهم مُجتمعين بـ ’أطراف ريفينيتيف ‘) أي مسؤولية (سواءً مجتمعين أو منفردين) تجاهك عن أية أضــرار مباشــرة أو غيــر مباشــرة أو تبعيــّة أو خاصــة أو عرضيّة أو تأديبية أو تحذيريّة؛ وذلك بما يشمل على سـبيل المثـال لا الحصـر: خسـائر الأرباح أو خسارة الوفورات أو الإيرادات، سـواء كان ذلك بسبب الإهمال أو الضـرر أو العقـد أو نظريـات المسـؤولية الأخرى، حتـى لـو تـم إخطـار أطـراف ’ ريفينيتيف ‘ بإمكانيـة حـدوث أيٍ مـن هـذه الأضرار والخسـائر أو كانـوا قـد توقعـوا فعلياً حدوثهـا