خلال السنوات الأخيرة، بدأت البشرية إدراك حجم ما اقترفته في حق كوكب الأرض من جرائم لا تسقط بالتقادم بل بالعكس تزداد تكلفتها. ولعل قمة المناخ التي عقدت في جلاسكو هذا الشهر هي أحد محاولات قادة العالم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، حتى وإن اختلف البعض على جدية تلك المحاولات من عدمها، لكنها تظل اعتراف بالرغبة في إنقاذ الأرض أو على الأقل تحجيم الخسائر البيئية التي لحقت بعالمنا، والتي يعتبر التغير المناخي أحد جوانبها. 

فخلال السنوات الأخيرة، ظهرت مصطلحات كالاقتصاد الأخضر والتمويل الأخضر للتعبير عن تنفيذ وتمويل الأنشطة الاقتصادية التي تتسم بمعايير الاستدامة، واستبدال أساليب الطاقة النظيفة والمشروعات المستدامة بغيرها من المكلفة بيئياً، وهو أمر محمود بالطبع. ولكن، على الناحية الأخرى، ظهر كذلك ما يسمى بـ "الغسل الأخضر". 

فما هو الغسل الأخضر؟ 

الغسل الأخضر Greenwashing هو مصطلح ظهر لأول مرة في منتصف ثمانينات القرن الماضي على لسان الناشط البيئي والباحث "جاي ويسترفيلد"، عندما لاحظ دعوة بعض الفنادق للنزلاء للالتزام ببعض السلوكيات بدعوى الاستدامة البيئية، بينما هي لتوفير بعض تكاليف الفندق ليس إلا.

وهنا، نتكلم عن الغسل الأخضر والذي يعني أن "تتظاهر" شركة ما أو مؤسسة ما ببذل مجهود كبير في توجه الاستدامة ومراعاة العوامل البيئية في أنشطتها، بينما هي تهتم بتسويق هذا الانطباع أكثر من اهتمامها فعلياً بالاستثمار والإنفاق على جوانب الاستدامة. أي بمعنى آخر، تسويق انطباع لا يحاكي الحقيقة عن أنشطة الشركة ومدى ملائمتها لمعايير الاستدامة، فقط لمواكبة رغبات الأطراف الأخرى من مستهلكين ومنظمات دولية في ظل تنامي الوعي بمدى أهمية البعد البيئي ومدى تأثير الاختيارات اليومية للمستهلكين كأفراد أو كأنشطة اقتصادية للمؤسسات على مستقبل الحياة على كوكب الأرض.  

وفي أيامنا هذه، تمارس العديد من الشركات وأحياناً العديد من السياسيين الغسل الأخضر، لإخفاء ضعف أدائهم في المعايير البيئية بالتسويق القوي للقضايا البيئية وادعاء الالتزام بقضايا مثل استغلال الطاقة النظيفة، إعادة تدوير المخلفات، العدالة بين الفئات المختلفة للعاملين في خطوط الإنتاج، وغيرها، في محاولة لكسب رضا أجيال جديدة من المستهلكين يفضلون في نمط إنفاقهم السلع التي تحمل لافتات رنانة من هذا النوع.

وقد توجه البعض إلى اتهام قمة المناخ ذاتها بالغسل الأخضر وأن ملتقيات قادة العالم المتكررة لبحث القضايا البيئية أصبحت مجرد محافل للعلاقات العامة والتسويق لسياسات الدول الصناعية. 

متهمون بالغسل الأخضر: أسماء تبدو مألوفة... 

عندما يتعلق الأمر بمحاولة الشركات تجميل واقع ممارستها فيما يخص البعد البيئي، فإن ما قامت به شركة فولكس فاجن يعد أحد أشهر الأمثلة، حيث واجهت الشركة الشهيرة في 2015 اتهام بتعمد إخفاء القدر الحقيقي للانبعاثات الضارة الخاصة بسياراتها، وذلك عن طريق تزويد أجهزة السيارات ببرمجيات خاصة تستطيع تحديد ما إذا كانت السيارة تمر باختبارات بيئية، ومن ثم يتم تفعيل أنظمة معينة تحد من الأداء الحقيقي للمحركات بما ينعكس على قدر الانبعاثات التي يتم رصدها، بما يظهر السيارة بقدر أكثر ملائمة لمعايير السلامة البيئية في الوقت الذي تروج الشركة في دعاياتها للبعد البيئي بشكل كبير. 

وبطبيعة الحال، كان لشركات الطاقة العملاقة نصيب الأسد من قضايا البيئة واتهامات الغسل الأخضر، وهو أمر طبيعي أخذاً في الاعتبار اعتماد مصالحهم وكيانهم ذاته على صناعة بطبيعتها مكلفة بيئياً. فعلى سبيل المثال، واجهت بريتيش بتروليم BP دعاوى من كيانات قانونية تتهم حملتها الدعائية بتضليل العامة حيال التزام الشركة العملاقة بمستقبل منخفض الكربون، مطالبين الشركة بإضافة تحذير – شبيه بذلك الموضوع على عبوات السجائر – يفيد بأن استخدام النفط والغاز – منتجات الشركة – يزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري ويضيف عبئاً إلى أزمة المناخ. 

ولم تفلت إيني الإيطالية Eni من اتهامات مماثلة. ففي يناير 2020، تم تغريم الشركة 5 مليون يورو، وهي أقصى عقوبة ممكنة لمثل تلك الحالات، حيث ادعت الشركة أن وقود الديزل الخاص بها Diesel+ هو "أخضر" بشكل ما، وله تأثير إيجابي على البيئة ويساعد على الحد من استهلاك الوقود، وهو ما تم اعتباره تضليل للمستهلكين والجهات الرقابية والسياسيين، وقد تكون المرة الأولى لإثارة اتهام يتعلق بالغسل الأخضر في إيطاليا. 

وما دمنا نتكلم عن مجال الطاقة والوقود، فلا يمكن أن نغفل الحديث عن أرامكو السعودية بالتأكيد. حيث اضطر العملاق السعودي قبل منتصف 2020 لسحب دعايته المتعلقة بالمساهمة في الاستدامة البيئية، وذلك بعد عشرات الشكاوى التي تقدم بها البعض لهيئة معايير الإعلان Advertising Standards Authority الإنجليزية، حيث اعتبر المهتمون بمعايير البيئة أن مجرد اقتران لفظ "الاستدامة" بالوقود الأحفوري وإنتاجه، هو تضليل وغش صريح.

وقد اقتصرنا هنا لضيق المجال على بعض أشهر حالات الغسل الأخضر، ولكن القائمة تطول بالتأكيد. والأكثر إثارة للمخاوف ألا يقتصر الغسل الأخضر على الشركات وانما يمتد لصناع القرار وحكومات الدول، حيث قد يتظاهر السياسيون بمساندة قضايا البيئة والاستدامة وإقامة القمم والمنتديات، في حين يتقاتلون بشراسة للحفاظ على مصالح كياناتهم الكبرى واستمرارها.

فمن الطبيعي، طالما أننا نتكلم عن البشر، أن تتسيد المصلحة الموقف أياً كانت التكلفة، ولكن حين تكون التكلفة إنسانية باهظة، لابد على الناحية الأخرى – ناحية الرقابة البيئية والمجتمع المدني والجهات المحايدة المستقلة – أن نبذل جهد مضاعف لنشر القضية وكشف التلاعب بها، فالأدخنة تظل أدخنة وإن اصطبغت بالأخضر، والتلوث يظهر وان ادعى البعض أنهم لا يرونه. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

#مقالرأي

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.