زاوية عربي

هل تذكرون ما ظللنا ندرسه طويلاً في المرحلة الابتدائية أن الطقس في مصر (حار جاف صيفاً دفيء ممطر شتاءً).. حتى أصبحت هذه العبارة حقيقة كونية..؟ في كلية الاقتصاد، كانت هناك عبارة مشابهة، لطالما درسناها كأحد مزايا مصر كوجهة جيدة للاستثمار "وجود سوق كبيرة ومتنوعة تكفل وجود طلب على السلع والخدمات في مختلف شرائح الدخل ومستويات المعيشة". وإن كان لنا أن نتكلم عن ميزة كبيرة للزيادة السكانية، فهي تتعلق بتنوع السوق ووجود شهية استهلاكية عالية مع الظروف المختلفة. 

وخلال الفترة الأخيرة، مر الاقتصاد المصري بعدد من التطورات التي أثرت على استهلاك القطاع العائلي، حيث ارتبط برنامج الضبط المالي الذي نفذته مصر منذ نوفمبر 2016 بعدد من الإجراءات التي أثرت على القوة الشرائية للمستهلك المصري، أهمها كان تطبيق ضريبة القيمة المضافة (سبتمبر 2016) تعويم الجنيه (3 نوفمبر من نفس العام)، ورفع الدعم عن المحروقات على مراحل متلاحقة. كل تلك الإجراءات أدت إلى ارتفاع التضخم لأرقام فاقت الثلاثين بالمئة في 2017، وهو ما كان بمثابة ضربات موجعة ومتلاحقة للدخل الحقيقي المتاح للإنفاق لمعظم الأسر المصرية. 

ولذا، وخلال تطبيق البرنامج - الذي أشرف عليه صندوق النقد الدولي – تراجع دور الاستهلاك العائلي في النمو الاقتصادي نسبياً، بينما ساهم الاستثمار والطلب الخارجي (الصادرات) بالجزء الأكبر من نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأخيرة. وما أن بدأ الاستهلاك للقطاع العائلي يلتقط أنفاسه نوعاً، حتى جاءت جائحة كورونا بما لا يشتهي الاقتصاديون. 

مبادرة مصرية لتشجيع الاستهلاك...بشرط... 

منذ بداية أزمة كورونا، اتخذت الحكومة المصرية والبنك المركزي المصري بعض الإجراءات لعبور المرحلة بأقل الخسائر الاقتصادية الممكنة.

ودون الإغراق في تفاصيل تلك الإجراءات، نذكر أن أهمها رصد 100 مليار جنيه مصري لموجهة تداعيات الجائحة، وقيام البنك المركزي المصري في منتصف مارس الماضي بخفض أسعار الفائدة 3% دفعة واحدة، بالإضافة لبعض المبادرات لتخفيف الأُثر على القطاعات المتضررة، من خلال تسهيلات ائتمانية وتخفيف الأعباء.

ولسنا هنا للإغراق مجدداً في تفاصيل تلك الإجراءات، وإنما نسلط الضوء هنا على الإجراء الأحدث، حيث اعلنت الحكومة المصرية مؤخراً مبادرة لتشجيع الاستهلاك، وذلك عن طريق تخفيضات في أسعار المنتجات وكذلك دعم الأفراد على البطاقات التموينية بهدف شراء المنتجات المخفضة، إلا أن تلك المبادرة تنطبق على المنتج المحلي، أو ذلك الذي لا يقل به المكون المحلي عن 25%.

وتأمل تلك المبادرة لتحريك إنفاق المستهلكين بقيم تتجاوز قيم الدعم التي دعمت بها الحكومة مبادرتها. 

ماذا فعل الآخرون...؟ 

بالطبع ليست مصر هي الوحيدة. فمثلا، قامت الصين في مارس بتوزيع قسائم استهلاكية Vouchers، هدفها إعطاء دفعة للمستهلك لإنعاش السوق بعد تداعيات الجائحة. إلا أن الأخبار ترددت أن المستهلكين اقتصروا على الإنفاق على الضروريات اليومية، ولم ينفقوا كثيرا على السياحة أو المطاعم على سبيل المثال. ولعل تلك التجربة هي ما جعلت الحكومة المصرية تستثني المنتجات الغذائية من الاستفادة بالمبادرة، لتفادي آداء مماثل. في تركيا، قامت بعض البنوك بحملات قروض لتمويل المستهلكين.  

وفي مايو، أعلنت ألمانيا خفض الضريبة على القيمة المضافة في قطاع المطاعم من 19% إلى 7% في يوليو، لتشجيع الناس على العودة للإنفاق بشكل طبيعي في المطاعم والمتنزهات. وسارت النرويج في طريق مماثل، حيث خفضت الضريبة على القيمة المضافة المطبقة على القطاعات المتضررة من 12% إلى 6% حتى آخر أكتوبر، وذلك للسينمات والأوتيلات وخدمات النقل.  

لماذا  تهتم  الدول بتحفيز الاستهلاك؟ 

لنرجع إذن إلى بداية القصة. يُعرف الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة، بأنه قيمة ما تنتجه الدولة من سلع وخدمات خلال مدة معينة، يتم قياسها عادة بشكل سنوي وربع سنوي. ولتفسير كيف يتحقق النمو في هذه القيمة، جاءت نظريات مختلفة، وأحد تلك النظريات ترى أن زيادة الطلب من القطاعات المختلفة على السلع والخدمات - أي الإنفاق على الاستهلاك من الأسر والأفراد، وإنفاق الحكومة، وزيادة الطلب الخارجي – يدفع المنتجين للتوسع وزيادة مستويات إنتاجهم، وبالتالي الاحتياج لعمالة أكثر مما يحقق نسب تشغيل أعلى، تؤدي لزيادة طلب الأفراد على السلع والخدمات مجدداً، وهكذا. 

وكذلك، يساهم ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي من ناحية، إلى ارتفاع مبيعات الشركات من الناحية الأخرى، وبالتالي ترتفع الحصيلة الضريبية للضرائب المباشرة (كالضريبة على دخل الفرد أو ربح الشركة) وغير المباشرة (كالضرائب على المبيعات أو الضريبة على القيمة المضافة) في موازنة الدولة.  

إذن، فليس المتضرر من حالات الكساد أو الركود هو الفرد أو الأسرة والقطاع العائلي فحسب، ولا الشركات بانخفاض مبيعاتها فقط، ولكن الأمر بالغ الأهمية كذلك للحكومة والمالية العامة. فلا عجب إذن أن نصحت بعض النظريات الاقتصادية بخفض الضرائب عن الفئات ذات الدخل الأدنى لإتاحة فرصة أكبر لرفع الإنفاق الاستهلاكي مما يحفز الاقتصاد ككل. 

إلا أن تمويل تلك الحزم التحفيزية لا يأتي دون مقابل. فعادةً ما يتم تعويض هذا التوسع في الإنفاق من الموازنات العامة عن طريق رفع الحصيلة الضريبية في وقت لاحق، حين يستعيد الاقتصاد عافيته، أو التوسع في الاقتراض، وهوما قد يصاحبه ارتفاع في التضخم، وكلا الحلين غير محببين للكل كما نرى. 

فلترقد روح كينز بسلام...! 

لا يمكننا أن نتكلم عن مبادرات تحفيز الاقتصاد والإنفاق الكلي دون أن نذكر جون ماينارد كينز، أحد الأسماء البارزة في الاقتصاد (1883 – 1946).

اقتصادي بريطاني عتيد، عاكس الأفكار التي سادت لفترة، وهي – باختصار – أن آليات السوق وحدها، ودون أي تدخل، قادرة على إحداث التوازن الاقتصادي ورفع مستويات التشغيل.

على العكس من ذلك اهتم كينز بجانب الطلب في المعادلة الاقتصادية، ورأى أن الاقتصاد في مراحل الكساد يحتاج لا محالة للتدخل الحكومي، حيث تتوسع الحكومة في الإنفاق ولو بعجز أكبر في الموازنة لتحريك الطلب الذي بدوره يحرك جانب العرض وبالتالي التشغيل.

وربما إلقاء نظره على السنوات التي عاش خلالها الاقتصادي الكبير توضح سبب وصوله لنظريته، حيث عاصر كينز الكساد الكبير (1930)، وكانت توصياته للدول المختلفة خلال منتصف الثلاثينات في هذه المرحلة بزيادة الإنفاق الحكومي للخروج من هوة الكساد. وعلى ما يبدو، لجأ صناع السياسة المالية والاقتصادية اليوم بشكل عام إلى "روشتة كينز"، وسنرى خلال السنوات القادمة – من خلال النتائج - ما إذا كانت إجابات كينز لا زالت صحيحة في هذا الاختبار الذي تجدد بعد سنوات قاربت القرن من الزمان. 

(عملت  إسراء  سابقاً  كاقتصادي  أول  بشركة  شعاع  لتداول  الأوراق  المالية  -  مصر،  وكذلك  شركة  مباشر  لتداول  الأوراق  المالية،  بالإضافة  لعملها  كباحث  اقتصادي  في  عدد  من  الوزارات  المصرية) 

(للتواصل:  yasmine.saleh@refinitiv.com) 

تغطي  زاوية  عربي  أخبار  وتحليلات  اقتصادية  عن  الشرق  الأوسط  والخليج  العربي  وتستخدم  لغة  عربية  بسيطة. 

© ZAWYA 2020

إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى الأصلي
تم كتابة محتوى هذه المقالات وتحريره من قِبل ’ ريفينيتيف ميدل ايست منطقة حرة – ذ.م.م. ‘ (المُشار إليها بـ ’نحن‘ أو ’لنا‘ (ضمير المتكلم) أو ’ ريفينيتيف ‘)، وذلك انسجاماً مع
مبادئ الثقة التي تعتمدها ريفينيتيف ويتم توفير المقالات لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقترح المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية أي استراتيجية معيّنة تتعلق بالاستراتيجية الأمنية أو المحافِظ أو الاستثمار.
وبموجب الحد الذي يسمح به القانون المعمول به، لن تتحمّل ’ ريفينيتيف ‘، وشركتها الأم والشركات الفرعية والشركات التابعة والمساهمون المعنيون والمدراء والمسؤولون والموظفون والوكلاء والمٌعلنون ومزوّدو المحتوى والمرخّصون (المشُار إليهم مُجتمعين بـ ’أطراف ريفينيتيف ‘) أي مسؤولية (سواءً مجتمعين أو منفردين) تجاهك عن أية أضــرار مباشــرة أو غيــر مباشــرة أو تبعيــّة أو خاصــة أو عرضيّة أو تأديبية أو تحذيريّة؛ وذلك بما يشمل على سـبيل المثـال لا الحصـر: خسـائر الأرباح أو خسارة الوفورات أو الإيرادات، سـواء كان ذلك بسبب الإهمال أو الضـرر أو العقـد أو نظريـات المسـؤولية الأخرى، حتـى لـو تـم إخطـار أطـراف ’ ريفينيتيف ‘ بإمكانيـة حـدوث أيٍ مـن هـذه الأضرار والخسـائر أو كانـوا قـد توقعـوا فعلياً حدوثهـا