تعد صناعة الشحن البحري واحدة من أهم الصناعات وأكثرها ارتباطا بالتجارة الدولية، كما أنها في الوقت ذاته أحد المؤشرات التي يعتمد عليها لتقييم النمو أو التراجع الراهن والمستقبلي للتجارة العالمية، فالسفن العملاقة التي تمخر عباب البحار أو المحيطات تنقل الجزء الأكبر من التجارة الدولية.

مستقبل هذه الصناعة بات في الأسابيع القليلة الماضية محل تساؤل بين كثير من الخبراء والمختصين، ولا يعود ذلك إلى اكتشاف البشرية بشكل مفاجئ وسيلة أسرع أو أرخص من السفن العملاقة لنقل السلع والبضائع، وإنما يعود القلق إلى احتمال تأثير الحرب التجارية المشتعلة، والآخذة في التصاعد بين أمريكا والصين على عمليات النقل البحري، وخاصة أن جميع المؤشرات الراهنة تشير إلى استعداد الطرفين لمواصلة المضي قدما في تلك الحرب، ومع كل زيادة تفرضها الولايات المتحدة أو الصين على السلع المستوردة من الطرف الآخر، تتزايد التوقعات بأن معدلات التجارة الدولية ستتقلص، وسيتقلص معها أيضا عدد السفن الحاملة للسلع إلى مختلف دول العالم. ولمعرفة أهمية تلك الصناعة وتأثيرها دوليا فإن الأرقام تعطينا فكرة دقيقة عن ذلك.

وتعد صناعة الشحن البحري الدولية مسؤولة عن نقل 90 في المائة من التجارة العالمية، ومن حيث القيمة فإن تجارة الحاويات العالمية المنقولة بحرا تمثل 60 في المائة من التجارة العالمية المنقولة بحرا، التي بلغت قيمتها نحو 12 تريليون دولار أمريكي العام الماضي، وارتفعت كمية البضائع المنقولة بحرا بواسطة الحاويات من نحو 100 مليون طن متري عام 1980 إلى نحو 1.7 مليار طن متري عام 2015، وقد تطلب ذلك أن تزيد سفن الشحن من قدرتها وعددها، بحيث تجاوز العدد الإجمالي للسفن التجارية في العالم حاليا 50 ألف سفينة، وتحديدا بلغ 52183 سفينة شحن في كانون الثاني (يناير) من عام 2017، ووفقا للتقديرات الدولية فإن الخطوط الجوية الدنماركية APM-Maersk تعد أكبر شركة للنقل البحري على مستوى العالم. وتبلغ قيمة سفينة الشحن ذات القيمة العالية والمتطورة من الناحية التقنية نحو 200 مليون دولار، بينما يبلغ الدخل المتولد من أعمال السفن التجارية نحو نصف تريليون دولار سنويا.
وفي جانب التصدير ووفقا لبيانات مجلس الشحن العالمي فإن دول شرق آسيا تهيمن على تجارة الخطوط الملاحية المنتظمة.

وتستأثر أكبر عشر دول في مجال الصادرات عالميا على ما يقرب من ثلثي قيمة صادرات الخطوط الملاحية المنتظمة، حيث يوجد حاليا نحو 400 خدمة للخطوط الملاحية المنتظمة تعمل يوميا، أما الصين الكبرى (الصين وهونج كونج وتايوان) فتهيمن على 28 في المائة من قيمة صادرات الخطوط الملاحية المنتظمة، و30 في المائة من الحجم العالمي للصادرات بالحاويات

ولا شك أن ضخامة تلك الصناعة والدور الذي تلعبه الصين في التجارة العالمية يجعل السؤال حول تأثير الحرب التجارية الأمريكية – الصينية على صناعة الشحن البحري سؤالا مشروعا.

وقال لـ"الاقتصادية" جون بارك نائب المدير التنفيذي لاتحاد الشحن البحري البريطاني، "حتى الآن لا يوجد لدينا مؤشرات على تأثر قطاع الشحن البحري على المستوى العالمي بتلك الحرب المتصاعدة، وحتى إذا كان هناك تأثير فهو طفيف وينحصر في خط أو اثنين من خطوط الشحن الملاحية، وربما يرجع لعوامل أخرى مثل أسعار الوقود والجوانب التنظيمية".

وأضاف، "لكن هذا لا يعني أن الوضع سيكون جيدا في المستقبل، فالحرب التجارية لم تندلع إلا منذ أيام قليلة، أما إذا تواصلت فحتما ستنعكس سلبا على التجارة الدولية، وهذا سينعكس على عمليات الشحن البحري".

لكن المخاوف تبدو عند بعض الخبراء الآخرين ومن بينهم ماريك كلارك الرئيس السابق لاتحاد عمال الشحن البحري في بريطانيا أكثر وضوحا.
ويقول كلارك، "على الرغم من صعوبة القول إن هناك تأثيرات ملحوظة على الشحن البحري نتيجة الحرب التجارية، إلا أن هذا التأثير الطفيف يأتي في أوقات شديدة الصعوبة، فتنفيذ المنظمة البحرية الدولية للقوانين الجديدة التي ستطبق من عام 2020، التي تحد من الانبعاثات الكبريتية، وبعد أن كانت نسبتها 3.5 في المائة تم خفضها إلى 0.5 في المائة فقط، وهذا سيزيد من تكاليف الشحن بشكل كبير، وقد يكلف الصناعة نحو 60 مليار دولار إضافيا كل عام، فإذا تواكب ذلك مع انخفاض التجارة الدولية، فإن الوضع سيكون سيئا للغاية.

وقد أدت تلك التطورات إلى إعادة شركات الشحن البحري الدولية النظر في توقعاتها المستقبلية، وعلى الرغم من أن أغلب التوقعات تشير إلى أن نمو صناعة الشحن البحري لن يتجاوز هذا العام نسبة 3.5 في المائة مقابل 4.1 في المائة العام الماضي، فإن الاتجاه العام يشير إلى أن ظاهرة الدمج التي اعتقد الخبراء أنها وصلت إلى ذروتها العام الماضي ستتواصل هذا العام.

وهناك عديد من التكهنات بأن بعض من الشركات الكبيرة في الصناعة ستكون هدفا لعملية الاندماج، لكن أغلب عمليات الدمج ستحدث في نهاية العام، حيث يمكن للجميع قراءة المشهد بصورة أكثر وضوحا، والتعرف بشكل أدق على تداعيات الحرب التجارية، كما أن الشركات التي ستكون بعيدة عن منطق الاندماج، سيرجح أن تقوم بإعادة تقييم سلاسل الخدمات وعوامل التحميل الخاصة بها، وقد ينجم عن ذلك توقيع اتفاقيات أو مواثيق بين شركتين أو أكثر للتغلب على الصعوبات والتحديات المتزايدة في السوق عبر التنسيق والعمل المشترك.

من جانبه يعلق الدكتور أرون ريتشارد أستاذ التجارة الدولية قائلا، "هناك عاملان يجب أخذهما في الاعتبار، أولا حتى مع الاستخدام السريع للتكنولوجيا في السنوات القليلة الماضية، لم تشهد صناعة الشحن البحري تحولا ذا مغزى، فعلى سبيل المثال جزء كبير من الحجوزات يتم بشكل يدوي، والشركات التي تعتمد على التكنولوجيا لا تأخذ احتياطات كافية ضد القراصنة، وهو ما نجم عنه أن خسرت شركة Maersk للشحن البحري العام الماضي ما يراوح بين 200 حتى 300 مليون دولار.

ويضيف "لكن الأمر الأهم حاليا هو إلى أي مدى سيكون لدى الشركات الكبرى رغبة في زيادة قدرتها، تبدو المؤشرات حتى الآن إيجابية، ومن المرجح في ظل توتر العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة أن تعمل السفن كبيرة الحجم في التجارة بين آسيا وأوروبا، وقد يترافق ذلك مع ازدحام في الخطوط الملاحية وزيادة الحوادث البحرية، وسيدفع هذا بالصناعة إلى مواصلة التخلص من السفن القديمة، والاعتماد على السفن المزودة بالتكنولوجيا الحديثة، وسيترافق هذا غالبا مع ارتفاع في أسعار الشحن البحري".

© الاقتصادية 2018