شهد قطاع النقل قدرًا كبيرًا من النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وفي أعقاب هذا النمو، كان من الطبيعي أن تتزايد المنازعات المتعلقة بالنقل. وغالبًا ما تنطوي عقود النقل أو قضايا النقل على مجموعة معقدة ومتخصصة من القواعد والقوانين؛ وبالنظر إلى الطبيعة المعقدة للمنازعات في مجال النقل، يمكن أن تظل هذه المنازعات مستمرة لسنوات في إجراءات التقاضي، مع إمكانية الطعن عليها في مراحل الاستئناف.

مقدمة

يوفر التحكيم مزايا معينة في تسوية المنازعات في مجال النقل، ويمكن لأطراف النزاع أن تُعين محكمًا متخصصًا وذو معرفة بمجال النقل ذي الصلة. وعلاوة على ذلك، فإن إجراءات التحكيم عادةً ما تكون خاصة وسِرّية (يُرجى الاطلاع على مقالة زملائنا في هذه الطبعة من "تحديث القانون")، وأكثر ملاءمة لأمور النقل التجاري الحساسة؛ ويمكن للتحكيم أيضًا أن يكون فعالًا من حيث التكلفة، كما أنه أسرع من التقاضي، لأنه لا يوجد عادة أي استئناف. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن إنفاذ قرار التحكيم في ولايات قضائية متعددة، عملًا باتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وإنفاذها ("اتفاقية نيويورك") والمعاهدات الإقليمية أو الثنائية أو كليهما معا. وإقرارًا بالمزايا التي يتيحها التحكيم، يُنصح الأطراف بالنظر إلى التحكيم باعتباره وسيلة قضائية لتسوية المنازعات المتعلقة بالنقل.

تستعرض هذه المقالة مدى استخدام التحكيم في تسوية المنازعات عبر وسائط النقل المختلفة، أي قطاعي النقل البحري والجوي والنقل البري (ولا يُنظَر هنا في مجال النقل الفضائي المثير للاهتمام). 

النقل البحري

للمملكة المتحدة تاريخٌ طويلٌ في مجال النقل البحري، ويُنظر إليها كولاية رئيسية لتسوية المنازعات البحرية؛ وتعتبر جمعية المحكمين البحريين في لندن رابطة بارزة للمُحكّمين البحريين، وتهدف هذه الجمعية إلى دعم التحكيم البحري، لكنها لا تدير إجراءات التحكيم أو تشرف عليها. وخلافًا للمنظمات الأخرى (مثل غرفة التحكيم البحري في باريس، والتي نناقشها أدناه)، فإن جمعية المُحكّمين البحريين في لندن تُعيّن فقط المُحكّمين عندما ينص اتفاق التحكيم على ذلك. وتَحكُم شروط جمعية المُحكّمين البحريين في لندن لعام 2012 غالبية قضايا التحكيم البحري في لندن. 

أما غرفة التحكيم البحري في باريس فتُعد مركزًا بارزًا ورائدًا آخر للتحكيم، حيث تدعم الغرفة التحكيم البحري الدولي، وتُشرف على إجراءات التحكيم؛ ويقدم برنامج غرفة التحكيم البحري في باريس قواعد التحكيم لعام 2014 التي تحكم إجراءات التحكيم. 

ولجمعية المحكمين البحريين في لندن وغرفة التحكيم البحري في باريس شعبية كبيرة في مجال التحكيم البحري، ونجحتا في جذب الأطراف المتنازعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى تسوية منازعاتهم طبقًا لقواعدهما.

وحتى وقت قريب، لم تكن هناك مؤسسات تحكيم بحرية متخصصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وعادة ما تختار الأطراف أن يتم التحكيم في نزاعاتها البحرية الدولية أمام جمعية المحكمين البحريين في لندن أو غرفة التحكيم البحري في باريس (أو بشكل أقل أمام فريق التحكيم البحري في هونغ كونغ أو مؤسسة النقل البحري روتردام-أمستردام). وفي عام 2016، تم إنشاء مركز الإمارات للتحكيم البحري في الإمارات العربية المتحدة، وأصبح هو مركز التحكيم المتخصص الوحيد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وبالتالي، قام "مركز الإمارات للتحكيم البحري" بسد الفجوة في سوق التحكيم البحري الدولي من خلال إنشاء أول مركز تحكيم بحري إقليمي. 

يقع مقر مركز الإمارات للتحكيم البحري في مركز دبي المالي العالمي، وهي منطقة مالية حرة في إمارة دبي؛ ويعتبر مركز دبي المالي العالمي هو المقر الرئيسي للتحكيم في مركز الإمارات للتحكيم البحري، وستكون لمحاكم مركز دبي المالي العالمي سلطة قضائية إشرافية (ما لم يتفق الأطراف على خلاف ذلك). وقد دخلت محاكم مركز دبي المالي العالمي ومحاكم دبي في مذكرة إرشاد تنص على تطبيق الأحكام والقواعد بشكل متبادل دون مراجعة مزاياها، وذلك إلى جانب قانون دبي رقم 12 لسنة 2014. كما يجب أن تكون أحكام مركز الإمارات للتحكيم البحري قابلة للتنفيذ في إمارة دبي، ومن ثم في جميع أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة. 

وعلاوة على ذلك، فإن الأطراف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تختار مركز الإمارات للتحكيم البحري، تتمتع بميزة الأحكام القابلة للتنفيذ على المستوى الدولي، لأن أي قرار تحكيم نهائي يصدر في محكمة مركز دبي المالي العالمي يجب أن يكون قابلًا للتنفيذ في أي دولة من الدول المشتركة في اتفاقية نيويورك وفقًا لاتفاقية نيويورك (تخضع لأسباب محدودة للطعن بموجب اتفاقية نيويورك).

النقل الجوي

تحدث منازعات النقل الجوي على مستويات مختلفة، وهي منازعات تحدث بين الدول، كما تكون بين الشركات وبعضها وبين الشركات والمستهلكين. 

هذا ويخضع النقل الجوي إلى حد كبير لاتفاقية الطيران المدني الدولي ("اتفاقية شيكاغو")؛ وقد وضعت اتفاقية شيكاغو آلية موحدة للتنظيم التقني والاقتصادي للنقل الجوي الدولي، كما طورت المنظمة الدولية للطيران المدني، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة متخصصة في إدارة الاتفاقية. وتعمل المنظمة الدولية للطيران المدني مع الدول الأعضاء في اتفاقية شيكاغو والمجموعات الصناعية للتوصل إلى إجماع حول المعايير والممارسات الدولية المقترحة في مجال الطيران المدني لدعم قطاع النقل الجوي المدني. ويعتبر الاتحاد الدولي للنقل الجوي هو الرابطة التجارية لشركات الطيران في العالم؛ وهو يدعم العديد من مجالات أنشطة النقل الجوي ويساعد على صياغة سياسات الصناعة بشأن قضايا النقل الجوي الحرجة؛ غير أن هذه الهيئات لا يتم وضعها عادة في الاعتبار في تسوية المنازعات المتعلقة بالمحاسبة.

وفيما يتعلق بالمنازعات بين الدول، فإن المحاكم الدولية الرئيسية لتسوية المنازعات، من أجل حل نزاعات الطيران الدولي، هي مجلس المنظمة الدولية للطيران المدني الدولي، وهيئة تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية. ويجوز أن تكون لمنظمة التجارة العالمية ولاية قضائية على بعض المنازعات المتعلقة بالنقل الجوي، عملًا بالاتفاق العام بشأن التجارة في الخدمات الذي يحكم خدمات النقل الجوي، باستثناء حقوق الحركة والخدمات المرتبطة مباشرة بحركة المرور. وعلى الرغم من أن الأطراف الخاصة ليس لها الحق في الوصول مباشرة إلى هيئة تسوية المنازعات في مجلس الأمن (والكثير من إجراءاتها يشبه المحكمة أو هيئة التحكيم) ويجوز أن يكون لهم الحق في الوصول غير المباشر من خلال آليات الشكاوى القائمة (على سبيل المثال، يمكن للمشتكين من القطاع الخاص رفع اعتراضات إلى منظمة التجارة العالمية حول لوائح بلدان أخرى بموجب لائحة الحواجز التجارية الأوروبية). 

وتتطلب منازعات النقل الجوي وجود معرفة متخصصة بالتكنولوجيا والعلوم والقانون الجوي؛ وقد حدد العلماء اتجاه اختيار التحكيم في الاتفاقات الثنائية منذ عام 1962. فعلى سبيل المثال، نص اتفاق السماوات المفتوحة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أن التحكيم هو الآلية الوحيدة لتسوية المنازعات وحل أي نزاع. 

وفي حالة المنازعات بين الشركات وبعضها، وبين الشركات والمستهلكين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تميل الأطراف المشاركة في منازعات النقل الجوي في الغالب إلى تسوية قضاياها من خلال التقاضي. وعادة ما يتم تسوية المنازعات المتعلقة بالنقل الجوي، ولا سيما المنازعات الناشئة عن عمليات النقل الجوي ومطالبات المسؤولية (مثل المطالبات المتعلقة بفقدان وتدمير البضائع أو الأمتعة، والإصابات والوفيات، والتأخير في النقل)، عن طريق المحاكم المختصة (محاكم إنكلترا وويلز والتي تميل إلى أن تكون ولاية قضائية معروفة لمنازعات الطيران). وفي حالات الوفاة أو الإصابة (أو أي حالة تتعلق بالسياسة العامة للولاية القضائية)، فإن الأطراف تميل إلى تسوية منازعاتها في المحكمة/الولاية القضائية التي وقع فيها الحادث. 

وفيما يتعلق بمنازعات المعاملات بين الشركات، يمكن للأطراف أن تختار إدراج شرط تحكيم في اتفاقاتها؛ وللأسباب المذكورة آنفا، يمكن أن تقدم الأطراف خدمة جيدة لتسوية منازعاتها الجوية الناشئة عن اتفاقات المعاملات (مثل التأجير والتمويل) عن طريق التحكيم. وخلافًا للقطاع البحري، لا يوجد مركز تحكيم متخصص لحل نزاعات النقل الجوي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويمكن للأطراف تسوية نزاعاتها من خلال التحكيم المخصص أو المؤسسي (على سبيل المثال، من خلال مراكز التحكيم الرائدة مثل محكمة لندن للتحكيم الدولي وغرفة التجارة الدولية ومركز دبي للتحكيم الدولي).

النقل البري

على غرار قطاع النقل الجوي، لا يوجد مركز تحكيم متخصص لحل منازعات النقل البري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ وفي حين أن التحكيم (سواء المخصص أو المؤسسي) يظل خيارًا شائعًا لتسوية المنازعات المتعلقة بالنقل، فإن الأطراف غالبًا ما تلجأ إلى ولايات قضائية أجنبية أخرى لديها مراكز تحكيم متخصصة (أو تسوية النزاعات من خلال عمليات التحكيم المخصصة في ولايتها القضائية). وكثيرًا ما تختار الأطراف أيضًا أن يتم التحكيم في نزاعات النقل البري في مراكز التحكيم المحلية غير المتخصصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مثل مركز دبي للتحكيم الدولي. 

في هولندا، توفر مؤسسة النقل البحري روتردام-أمستردام منبرًا للتحكيم في مجالات الشحن وبناء السفن والنقل والتخزين والخدمات اللوجستية والتجارة الدولية؛ وهي أيضًا محكمة معروفة لتسوية المنازعات البحرية. وتقدم مؤسسة النقل البحري روتردام-أمستردام للأطراف إمكانية التحكيم الإلكتروني، حيث تجري الأطراف إجراءات التحكيم عبر منصة الإنترنت. 

وبالإضافة إلى ذلك، فإن محكمة التحكيم الدولية لعدالة النقل في رومانيا، وهي هيئة مستقلة أخرى متخصصة في التحكيم في مجال النقل والأنشطة الأخرى ذات الصلة، مثل أنشطة وسطاء الجمارك وأنشطة وكلاء الشحن والتخزين والتعامل مع السلع، وخدمات البريد والبريد السريع. وتعمل محكمة التحكيم الدولية لعدالة النقل في الرابطة الرومانية للنقل البري الدولي وفقًا للقواعد المنطبقة على جميع المنازعات المقدمة إلى ولايتها القضائية عملًا باتفاق التحكيم المعين.

تحكيم معاهدة الاستثمار 

مع ظهور معاهدات الاستثمار الثنائية و(اتفاقات التجارة الحرة)، حدث انفجار في ترتيبات تسوية المنازعات، مما أتاح وصولًا مباشرًا للمستثمرين من القطاع الخاص في المنازعات المتعلقة بالاستثمار مع الدول المضيفة (خلافًا لذلك، مثلاً، النزاعات بين الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية). ومن ثم يمكن للمستثمرين الأجانب الذين استثمروا في قطاع النقل في دولة مضيفة معينة أن يكون لهم إمكانية الوصول المباشر إلى التحكيم الدولي ضد الدولة المضيفة ذات الصلة إذا تم انتهاك أحكام معاهدة الاستثمار الثنائية أو اتفاقية التجارة الحرة السارية في تعاملها مع الاستثمار المتصل بالنقل. 

خاتمة

في ختام هذا الاستعراض الموجز، نلاحظ أن التحكيم يوفر عمومًا محفلًا جذابًا لتسوية العديد من أنواع المنازعات المتعلقة بالنقل على مختلف المستويات، ولا سيما على مستوى الأعمال التجارية. بيد أنه ينبغي النظر في اختيار محفل لتسوية المنازعات على وجه الدقة مع محامين مختصين خارجيين أو داخليين على أساس كل حالة على حدة، مع مراعاة جميع العوامل ذات الصلة. كما ينبغي أن نهنئ مركز الإمارات للتحكيم البحري على وضع سابقة رائعة من خلال تزويد الأطراف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في قطاع النقل البحري بمركز تحكيم متخصص في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويبقى أن نرى ما إذا كانت تطورات مماثلة ستتبع في قطاعات النقل الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كتبه: جون غافني/ ملك نصر الدين - j.gaffney@tamimi.com / m.nasreddine@tamimi.com - دبي، دولة الإمارات العربية المتحدة

© Al Tamimi & Company 2017