27 12 2017

قال مايكل سبنس كبير زملاء معهد هوفر وحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد انه كثيرا ما تطرح على الاقتصاديين من أمثالي مجموعة من الأسئلة المتكررة التي ربما تساعد على ارشاد اختيارات الشركات والأفراد والمؤسسات في مجالات مثل الاستثمار والتعليم والوظائف، فضلا عن توقعاتهم السياسية.

وفي أغلب الحالات لا توجد اجابة قاطعة حاسمة، ولكن بالاستعانة بالقدر الكافي من المعلومات يستطيع المرء أن يميز الاتجاهات فيما يتصل بالاقتصادات والأسواق والتكنولوجيا، وأن يتوصل الى تخمينات معقولة.

ومن المرجح أن يذكر عام 2017 في العالم المتقدم على أنه فترة من التناقض الصارخ، حيث شهدت اقتصادات عديدة تسارع النمو جنبا الى جنب مع التجزؤ السياسي والاستقطاب والتوتر على المستويين المحلي والدولي.

ومن غير المحتمل أن يكون الأداء الاقتصادي في الأمد البعيد محصنا ضد قوى الطرد المركزي السياسية والاجتماعية، ومع ذلك تجاهلت الأسواق والاقتصادات حتى الآن الاضطرابات السياسية، ويبدو خطر حدوث انتكاسة كبيرة في الأمد القريب ضئيلا نسبيا.

الاستثناء الوحيد هنا هو المملكة المتحدة التي تواجه الآن عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي التي تتسم بالفوضوية واثارة الشقاق. وفي مكان آخر في أوروبا تناضل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أُضعفت بشدة لتشكيل حكومة ائتلافية، ولا شيء من هذا يبشر بخير للمملكة المتحدة أو بقية أوروبا التي تحتاج بشدة الى العمل التعاوني المنسق بين فرنسا وألمانيا لاصلاح الاتحاد الأوروبي. وتتعلق احدى الصدمات المحتملة التي حظيت بقدر كبير من الاهتمام بتشديد السياسات النقدية، ففي ضوء الأداء الاقتصادي المتحسن في العالم المتقدم لا يبدو من المرجح أن يشكل التراجع التدريجي عن السياسة النقدية المتساهلة عقبة كبرى أو صدمة لقيم الأصول. ولعل التقارب التصاعدي الذي طال انتظاره بين الأساسيات الاقتصادية لاضفاء المشروعية على تقييمات السوق صار في المتناول الآن.

وفي آسيا، أصبح الرئيس الصيني شي جين بينغ بوضع أقوى من أي وقت مضى، وهو ما يشير الى امكانية توقع الادارة الفعالة لاختلالات التوازن والمزيد من النمو المدفوع بالاستهلاك والابداع، ويبدو أن الهند أيضا عازمة على الحفاظ على النمو وزخم الاصلاح، ومع نمو هذه الاقتصادات تنمو اقتصادات أخرى في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها. عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا -خاصة التكنولوجيا الرقمية- يبدو من الواضح عزم الصين والولايات المتحدة على السيطرة على هذا المجال لسنوات قادمة، حيث تواصل كل منهما تمويل البحوث الأساسية، وجني فوائد كبيرة مع تسويق الابداعات تجاريا. كما تعد كل من الولايات المتحدة والصين موطنا لمنصات كبرى للتفاعل الاقتصادي والاجتماعي، والتي تستفيد من تأثيرات الشبكة، واغلاق الثغرات المعلوماتية، وقدرات الذكاء الاصطناعي، والتطبيقات التي تستخدم وتعمل على توليد مجموعات ضخمة من البيانات القيمة. هذه المنصات ليست مربحة في حد ذاتها، ولكنها تنتج أيضا مجموعة من الفرص لنشوء نماذج أعمال جديدة تعمل داخلها وحولها، ولنقل في مجال الاعلانات، والخدمات اللوجستية، والتمويل. وعلى هذا، فان الاقتصادات التي تفتقر الى مثل هذه المنصات -مثل الاتحاد الأوروبي- تصبح في وضع غير مؤات، وحتى أميركا اللاتينية لديها منصة محلية مبدعة للتجارة الالكترونية ونظام للمدفوعات الرقمية.

وتحتل الصين مركز الصدارة في أنظمة الدفع عبر الانترنت المتنقلة، ومع تحول قسم كبير من سكان البلاد مباشرة من النقد الى الدفع عبر الانترنت -وتخطي الشيكات وبطاقات الائتمان- يتسم نظام المدفوعات في الصين بالقوة. وهناك أيضا مجال مبهر لتوسيع الخدمات المالية من التقييمات الائتمانية الى ادارة الأصول والتأمين على منصة علي بابا، وربما يكون توسعها الى بلدان آسيوية أخرى عن طريق الشراكات جاريا على قدم وساق الآن. وفي السنوات المقبلة سوف تضطر الاقتصادات المتقدمة والنامية أيضا الى العمل بجدية للتحول نحو أنماط أكثر شمولية للنمو، وهنا أتوقع أن تتخذ الحكومات الوطنية مقعدها خلف الشركات، وحكومات الأقاليم، والنقابات العمالية، والمؤسسات التعليمية وغير الربحية في دفع عجلة التقدم، خاصة في أماكن أضرت بها الانقسامات السياسية، فضلا عن ردة الفعل السلبية ضد المؤسسة السياسية.
 
ومن المرجح أن يتفاقم هذا التجزؤ، فمن الواضح أن التشغيل الآلي (الأتمتة) سيعمل على دعم -بل وحتى تسريع- التغيير على جانب الطلب في أسواق العمل في مجالات تتراوح بين التصنيع والخدمات اللوجستية والطب والقانون، في حين ستكون الاستجابات على جانب العرض أبطأ كثيرا. ونتيجة لهذا، فحتى اذا اكتسب العمال قدرا أعظم من الدعم خلال التحولات البنيوية (في هيئة دعم للدخل وخيارات اعادة التدريب) فان من المرجح أن تنمو أشكال عدم التوافق في سوق العمل، وهو ما من شأنه أن يزيد من اتساع فجوة التفاوت وأن يساهم في تفاقم الاستقطاب السياسي والاجتماعي.

ومع ذلك، هناك أسباب تدعو الى التفاؤل الحذر، فبادئ ذي بدء يظل الاجماع قائما في مختلف الاقتصادات المتقدمة والناشئة على استصواب الحفاظ على اقتصاد عالمي مفتوح نسبيا.

الاستثناء الملحوظ هنا هو الولايات المتحدة وان كان من غير الواضح في هذه المرحلة ما اذا كانت ادارة الرئيس دونالد ترمب تعتزم حقا الانسحاب من التعاون الدولي، أو أنها ببساطة تعيد التمركز لاعادة التفاوض على شروط أكثر انسجاما مع مصالح الولايات المتحدة.

© Annahar 2017