في ثلاث حلقات سابقة، تناولنا أداء أهم المؤشرات الاقتصادية اللبنانية، من نواحي النمو الاقتصادي والميزان التجاري واتساع عجز الموازنة.

اليوم، نتناول ناحية مختلفة نوعاً وإن كانت على صلة كبيرة بالأداء الاقتصادي ولها أبلغ الأثر عليه، وهي الناحية المؤسسية.   

فهنا، نحاول إلقاء نظرة على القيود التي تحكمت في الاقتصاد اللبناني من نواحي مثل الشفافية، المحاسبة ومحاربة الفساد.  

الورقة الرابعة: بين "طلعت ريحتكن" و"كلّن يعني كلّن"، الوجع واحد: الفساد...!  

تخضع اللعبة في لبنان للعديد من العوامل الطائفية والسياسية، تجعل معايير المحاسبة، الكفاءة، الشفافية ومحاربة الفساد في مكانة ليست بالأولوية، بل حفظ توازنات القوى هو محور الاهتمام. يقول البنك الدولي في تقرير له عن الاقتصاد اللبناني صدر في خريف 2019: "لا تخضع الممارسات غير الشرعية للعقوبة في لبنان إذا تضمنت أشخاص ذوي سلطة أو نفوذ أو ثروة، وهو ما يعكس استفحال نظام المحسوبية واستئثار النخبة، وشكل نوعاً من الأرض الخصبة للفساد وانعدام المساواة".  

المشكلة التي زادت الأمر تعقيداً أن الفساد لم يكن مجرد ممارسات مخبأة تتوارى عن الأعين، بل ساعدت بعض الأطر التشريعية على غياب المنافسة وتكافؤ الفرص. ولدينا هنا مثال واضح ضربه للتشريعات التي لا تؤدي دورها في مجال حماية المنافسة. هناك مرسوم رقم 34 لسنة 1967، والذي يعطي حق حصر التمثيل التجاري – أي الاحتكار بلغة أخرى – في كل السلع عدا المواد الغذائية ومواد التنظيف. وهو– كمعظم صور الاحتكار التجاري إن لم يكن كلها – يحط من كفاءة الأسواق ويعمل عكس مصلحة المستهلك.  

الملفت للنظر هنا أنه في 2004 كانت هناك محاولات في مجلس النواب لتعديل هذا القانون بما يلغي فكرة الحصرية ويحمي حقوق المستهلكين، إلا أن ضغوط أصحاب النفوذ والمصلحة وحملتهم الإعلامية والسياسية، تحت ذريعة أن الاحتكار يكفل نوعية جيدة من السلع وخدمة ما بعد البيع للمستهلك، قد حالت دون صدور القانون.  

من أين لك هذا...؟ اطمئن، لن يعلم أحد..!  

مثال آخر، في قانون "الإثراء غير المشروع"، رقم 154 لسنة 1999، والذي لا يستلزم أن يقدم أصحاب المناصب العامة الإقرار الشهير للذمة المالية بشكل معلن وشفاف، وإنما في مظروف مغلق، منافياً لما تستلزمه المصلحة العامة وحماية المال العام. كما تفتقر لبنان إلى آلية واضحة وحديثة وفعالة في تنظيم المعاملات الحكومية من خلال قانون المناقصات والمزايدات، وهو ما يفتح الباب على أوسع نطاق للفساد والتربح، الأمر الذي لم يعد سراً وتتناقله تقارير محلية وعالمية بوضوح تام.  

كل تلك الأمور مع انتشار الرشوة والممارسات غير المشروعة جعلت لبنان أحد أكثر 50 دولة عالمياً في انتشار الفساد، حسب منظمة الشفافية عن سنة 2019 محتلة الترتيب رقم 137 من إجمالي 180 دولة، حاصلة فقط على 28 من أصل 100 درجة في تقييم المنظمة.  

من ناحية أخرى، يذكر البنك الدولي في تقرير آخر – أو بمعنى أصح استطلاع The Enterprise Survey وهو استطلاع يجريه البنك الدولي على عينة ممثلة من شركات القطاع الخاص في الاقتصاد محل الدراسة  - أن 22% من الشركات اللبنانية واجهت على الأقل طلب واحد بتقاضي رشوة أثناء ممارستها أعمالها، وهو رقم مرتفع بالمقارنة بباقي منطقة الشرق الأوسط والبالغ 17%، وذلك وفقاً لاستطلاع عام 2019. 

كانت تلك هي الورقة الرابعة... والأخيرة في حلقاتنا عن لبنان..  

إلا أننا نعلم أن المشكلات في لبنان اكثر تعقيدا ولا يمكن اختصارها بهذه البساطة.. وربما العقدة الأكبر في وجهة نظرنا هي تعدد الأطراف التي بيدها الحل، داخلياً وخارجياً، طائفياً واجتماعياً، وربما الأمر الذي يقف أمام الإصلاح الحقيقي في لبنان هو وجوده كطرف في صراعات إقليمية وتوازنات سياسية في غاية الحساسية، ستجعل الحلول أبعد ما تكون عن كونها اقتصادية فقط، وربما يتعدى الأمر مجرد شروط اقتصادية من تخفيض إنفاق هنا أو رفع ضريبة هناك، إلى خريطة كاملة من إعادة توزيع أوراق اللعبة للأطراف داخلياً وخارجياً. ولكننا، لا نملك إلا أن نتمنى للبنان العزيز والقريب أن يتجاوز أزماته وآلامه سريعاً، وأن تعود أوراق الأرز مزهرة نضرة كما نتمنى أن نراها دائماً. 

لقراءة الأجزاء السابقة والمزيد عن الأزمة اللبنانية: لبنان.. ماذا يحدث وما الحل؟

(وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة.

© ZAWYA 2020

إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى الأصلي
تم كتابة محتوى هذه المقالات وتحريره من قِبل ’ ريفينيتيف ميدل ايست منطقة حرة – ذ.م.م. ‘ (المُشار إليها بـ ’نحن‘ أو ’لنا‘ (ضمير المتكلم) أو ’ ريفينيتيف ‘)، وذلك انسجاماً مع
مبادئ الثقة التي تعتمدها ريفينيتيف ويتم توفير المقالات لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقترح المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية أي استراتيجية معيّنة تتعلق بالاستراتيجية الأمنية أو المحافِظ أو الاستثمار.
وبموجب الحد الذي يسمح به القانون المعمول به، لن تتحمّل ’ ريفينيتيف ‘، وشركتها الأم والشركات الفرعية والشركات التابعة والمساهمون المعنيون والمدراء والمسؤولون والموظفون والوكلاء والمٌعلنون ومزوّدو المحتوى والمرخّصون (المشُار إليهم مُجتمعين بـ ’أطراف ريفينيتيف ‘) أي مسؤولية (سواءً مجتمعين أو منفردين) تجاهك عن أية أضــرار مباشــرة أو غيــر مباشــرة أو تبعيــّة أو خاصــة أو عرضيّة أو تأديبية أو تحذيريّة؛ وذلك بما يشمل على سـبيل المثـال لا الحصـر: خسـائر الأرباح أو خسارة الوفورات أو الإيرادات، سـواء كان ذلك بسبب الإهمال أو الضـرر أو العقـد أو نظريـات المسـؤولية الأخرى، حتـى لـو تـم إخطـار أطـراف ’ ريفينيتيف ‘ بإمكانيـة حـدوث أيٍ مـن هـذه الأضرار والخسـائر أو كانـوا قـد توقعـوا فعلياً حدوثهـا