14 06 2016

تسابيح

سَبَّحَتْ باسمكَ المَجيدِ السمَّاءُ

وتسامتْ باسمك الأسماءُ

يا عظيماً ويا حَليماً وفَرداً

منْ عطاياكَ دامتِ الآلاءُ

سَبَّحتْ باسمكَ الحميدِ البرايا

وتعالىَ إلى عُلاكَ الدُعاءُ

أحَدٌ واحدٌ سميعٌ عليمٌ

كلُّ أمرٍ لَهُ إليكَ انتهاءُ

تَرزقُ الطّيرَ دونَ سعيٍّ وكَدٍّ

باتِّكالٍ بهِ يكونُ النَّماءُ

سَبَّحَ الكونُ كُلّهُ لإلهٍ

واحدٍ واجبٌ عليهِ الثَّناءُ

أنزلَ الكُتُبَ أرسلَ الرُسُلَ أنبا

وهدَى الناسَ آيُهُ والضِّياءُ

حينما تُنْصَبُ الموازينُ يوماً

لحسابٍ بهِ يحينُ اللقَاءُ

عندها نرتَجي منَ اللهِ عفواً

حينَ يأتي مُحَمّدٌ والِّلواءُ

فاجعل المصطفَى شفيعاً وكنْ لي

غافراً ذاك مطلبي والرَّجاءُ

إليكَ إلهي

إليكَ إلهي إنني لعجولُ

وإني لمولايَ الكريم سؤولُ

وقدْ جاءني عنهُ الحدَيثُ بأنَّهُ

جوادُ غفورُ جاءَ عنهُ رَسولُ

وإنَّ رجائي فيهِ ما ذرّ شارقُ

وما حانَ منْ شمسِ النهار أفولُ

فواللهِ وجدي لا شفاً لرِسيسهٍ

إلىَ حينَ يدُنيني إليهِ وصولُ

كَلِفتُ بهِ وجداً وأتلَفَ مهجتي

ودادٌ لمنْ نفسي إليهِ تؤولُ

نهاري نهارُ التَّالفينَ صبابةً

وليلي إذا عزَّ الرَّجاءُ يطولُ

إليكَ إلهي لا لغيركَ مرجعي

وإنَّي بما قدْ رابَني لخجولُ

وما حُجَّتي عندَ السؤالِ وحاجتي

وماذا إذا حانَ الجوابُ أقولُ

وإنِّي لا أدري بما اللهُ فاعلٌ

إذا بانَ في آنِ الحسابِ ذهولُ

سوى أنني أرجو نداهُ وجودهُ

وأنْ يشملِ العبدَ الفقيرَ قبولُ

«إليك إلهي» و«تسابيح» ابتهالان روحــــــــــــــــانيان ينهلان من نبع محبة رب العالمين

الشعر إلهام ينزل على الشاعر كالوحي، والحب الإلهي نور يقذفه الله في قلب من يشاء متى يشاء وكيفما يشاء، ورمضان مدرسة العشق والجمال التي تفتح كل عام أبوابها لمن أراد أن يدرس فيها ويتخرج فيها بامتياز، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم رسام ماهر يعرف كيف يغطي جدران هذه المدرسة بروحانيات تناسب المقام، ويتخذ القرآن مصدر إلهام له.

في قصيدة «إليك إلهي» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وهي من بحر الطويل، نقرأ المفردات التالية: إلهي - مولاي - الكريم - جواد - غفور - رجائي - وجدي - رسيسه - وصول - كلفت - أتلف - وداد - صبابة - ليلي. هذه الكلمات التي تتأرجح بين الغزل والحب الصوفي يتدفق من شلالاتها الصدق والرجاء والتذلل والخضوع لرب العالمين، وكم يفرح الله بعبده المنكسر القادم إليه والمتوسل إليه لعلمه أن باب السماء مفتوح لمثله، والله لا يمل عبده السؤول الملحّ في دعائه، ورحم الله من قال:

لا تسألن بُنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ

الله يغضب لو تركت سؤالهُ وبنيّ آدم حين يُسأل يغضبُ

الله أكبر، والشيخ محمد بن راشد يتقن ذلك تماماً، لذلك قال:

إليك إلهي إنني لعجولُ وإني لمولاي الكريم سؤولُ

والمولى في قواميس اللغة بمعنى المالك والرئيس والسيد، والمولى الخالق والرازق، والمولى من أسماء الله الحسنى، ومعناه المأمول منه النصر والمعونة، قال تعالى: «ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق»، أي خالقهم وباعثهم ومالكهم، ولكلمة «المولى» معانٍ أخرى كثيرة ليس مكانها الآن، ولا سيما بعد أن عرفنا أن الشاعر أراد من كلمة «مولاي» هنا أن الله هو المأمول وحده منه النصر والمعونة.

حقائق

ثم إن كلمة «مولاي» في شعر سموه تثير تساؤلاً، وهو: هل يجوز أن يقال لغير الله مولانا، كما جرت العادة عند بعضهم أن يقول للملك مولاي أو للشيخ العالم مولانا، والجواب أنه جائز إذا لم يكن بمعنى الخالق والمالك والرازق، وقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، ويقول الله تعالى: «إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا».

وفي «الضياء الشارق»، ذكر الشيخ سليمان بن سمحان أنه لا مانع من إطلاق السيد والمولى على العبد إذا لم يتناف مع الربوبية أو الألوهية.

ثم إن قول سموه «ذرّ شارق» استعمال لغوي جميل، وربما لا يستخدم مثلها إلا شاعر في مستوى سموه، وفي اللغة ذرّت الشمس ذروراً أي ظهرت أول شروقها، وبين كلمة ذرّ وأفول معنى بديعي جميل يسميه علماء البلاغة الطباق، وهو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، كما في قول الله تعالى: «وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود»، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خير المال عين ساهرة لعين نائمة»، والشاعر يقول:

وننكر إن شئنا على الناس قولهم ولا ينكرون القول حين نقولُ

وفي البيت الذي يليه يقول سموه:

فوالله وجدي لا شفا لرسيسه إلى حين يدنيني إليه وصولُ

استخدم سموه كلمة «رسيس»، وهي كلمة أتحدى الكثيرين أن يفهموا معناها بسهولة، وفي اللغة العربية رسّ الشيء رسّاً ورسيساً أي دخل وثبت، ورسّ الغرام في قلبه ورسّ السقم في جسده أي ثبت وتمكن، وهو استخدام جميل من الشيخ محمد أيضاً. والشاعر يبيّن في هذا البيت فرط حبه وشوقه للقاء رب العالمين، كيف لا وهو يذوب صبابة في ليله ونهاره، ويعيش مترقباً ساعة اللقاء والوصول، وما أطول ليل المحبين الذي لا يعرف مداه إلا المحب نفسه على حد قول الشاعر:

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها

ثم يتوجه الشاعر إلى ربه وهو على يقين بأنه لا بد من لقياه، لكن ماذا يعمل عندئذٍ وبضاعته مزجاة، فهو برغم أن له أعمالاً خيرية كثيرة، ومبادرات علمية وثقافية واجتماعية ودينية في الداخل والخارج طيبة، ومواقف يشاد بها شرقاً وغرباً، فإنه لا يدري أين يكون القبول. فزاهد مثل أبي عبد الله الجنيد البغدادي، رحمه الله، رؤي في المنام فقيل له: «ما ذا فعل الله بك يا أبا عبد الله»، قال: «لقد ذهبت تلك العبارات، واختفت تلك الإشارات، ولم ينفعنا إلا ركيعات كنا نركعها وقت السحر».

نعم، ويختم الشاعر قصيدته بالقول:

وما حاجتي عند السؤال وحاجتي وماذا إذا حان الجواب أقولُ

وإني لا أدري بما الله فاعلٌ إذا بان في آن الحساب ذهولُ

سوى أنني أرجو نداه وجودهُ وأن يشمل العبد الفقير قبولُ

فكأن الشيخ محمد يريد أن يذكّرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم عمله الجنة»، قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟»، قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» ـ حديث مرفوع.

محاكاة الشعراء

وفي القصيدة الثانية، وهي ابتهال أيضاً بعنوان «تسابيح»، والقصيدة من بحر الخفيف على حد قول الشاعر العروضي:

خفّ حملُ الهوى علينا ولكن ثقّلتـــهُ عــــــواذل تترنـــــــــمْ

فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ربنا اصرف عنا عذاب جهنمْ

والشيخ محمد يقول:

سبحت باسمك المجيد السماءُ وتسامت باسمك الأسماءُ

يا عظيماً ويا حليماً وفرداً من عطاياك دامت الآلاءُ

جاءت القصيدة على غرار همزية البوصيري:

كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماء ما طاولتها سماءُ

لم يساووك في علاك وقد حا ل سنى منك دونهم وسناءُ

هكذا الشاعر بعد أن تمكن من الشعر صار يجاري هذا ويباري ذاك لاشعورياً، بل لمحض توارد الأفكار والأخيلة عنده، ومثل هذا يكثر عند من يكثر من القراءة والاطلاع، وهي ظاهرة صحية.

ابتهالات

فالمهم أن الشيخ محمد بن راشد مستمر في ابتهالاته، وأسأل الله أن يستمر فعلاً ويكون رمضانه كله ابتهالات، حتى يخرج لنا في النهاية بديوان ليس فيه إلا قصائد الابتهال.

وبالمناسبة، فمثل هذه القصائد يؤجر الإنسان على كتابتها وعلى إنشادها وتردادها، لأنها من قبيل الكلمة الطيبة أولاً، ولأنها تسبيح وتمجيد وتعظيم لرب العالمين ثانياً، فالعبادة ليست عبارات تختص دائماً بزمان أو مكان أو عمل، بل كل ما عظّم فيه الرب وقصد به وجهه الكريم فهو عبادة.

وبعد ذلك، هذه القصيدة تنفرد بأنها ذكرت فيها الكثير من أسماء الله الحسنى مثل: المجيد / عظيماً / حليماً / الحميد / أحداً / واحد / سميع / عليم /.

نعم.. القصيدة بشكل عام لوحة إيمانية حقاً تشتمل على التوحيد الخالص، انظر إلى قول سموه:

سبحتْ باسمك المجيد السماءُ وتسامت باسمك الأسماءُ

وأشار بهذا إلى قول الله تعالى: «إياك نعبد وإياك نستعين»، ثم انظر إلى قوله:

أحد واحد سميع عليمٌ كل أمر له إليك انتهاءُ

ترزق الطير دون سعي وكدٍّ باتكال به يكون النماءُ

وبهذا ذكّرنا بقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً».

وقد أشار في أبياته إلى بعض أركان الإيمان، كالإيمان بالله وبرسوله وبالكتب السماوية واليوم الآخر والبعث والحشر، ويوم تكون الشفاعة العظمى فقال:

أنزل الكتب أرسل الرسل أنبا وهدى الناس آيه والضياءُ

حينما تنصب الموازين يوماً لحساب به يحين اللقاءُ

فاجعل المصطفى شفيعاً وكن لي غافراً ذاك مطلبي والرجاءُ

هكذا نلاحظ أيضاً أن الشاعر طلب من الله المغفرة بقوله: «كن لي غافراً»، وهو أمر مباشر موجه من الأدنى إلى الأعلى، ومثل هذا جائز عند علماء البلاغة، ويسمونه الدعاء والالتماس، وفي القرآن الكريم كثير من هذا القبيل مثل: «ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين».

وبرغم أن ذلك جائز، فإن الشيخ محمد تدارك الأمر، فقال: «ذاك مطلبي والرجاء»، أي أنه لا يطلب من ربه بصيغة الإلزام، بل يرجو منه أن يحقق له ذاك بفضله، وله الفضل والمنة، وبهذا يعلمنـا الشيخ محمد كيف نتأدب مع رب العالمين.

رحمة ورضوان

وخلاصة القول أن سموه في هذه القصيدة يبتهل إلى الله بأحب أسمائه وصفاته، ثم يرجو رحمته ورضوانه، لا بما يقدمه من أعمال بره وجحافل إحسانه فقط، بل لمجرد أنه يعبده رباً واحداً، ويعترف بأنه لا شريك له، فهو الخالق والرازق والضار والنافع والمحيي والمميت، وهو العفو والغفور، وفي النهاية ليس للعبد إلا وجهه سبحانه، وقديماً قال الخيام:

إن لم أكن أخلصت في طاعتكْ فإننــي أطمـــع في رحمتـــكْ

وإنما يشفـــع لـي أننيقد عشت لا أشرك في وحدتكْ

أجل.. ونشكر شيخنا الشاعر الشيخ محمد بن راشد على هذه الموائد الشعرية الرمضانية، ونشهد له بأنه عرف كيف يختار الزمان والمكان لعرض هذه الأطباق الشهية، فيا سعادة من تناولها وتذوقها، وإنني لأعرف من كثب أن الشيخ محمد في جعبته الكثير من هذه التسابيح والتجليات، فطالما انفتحت علينا قريحته، نقول له:

لا تخف ما فعلتْ بك الأشواقُ واشرح هواكَ فكلنا عشاقُ

«إليكَ إلهي» إضاءات الروح في باب الرجاء

تضيء الروح وتشرقُ في شهر الخير بعبادات تجد فيها نفسها وراحتها، فتركنُ النفوس إلى علي مُقتدر وخالق كبير، ورب يُرتجى، جواد وغفور، تلهجُ الألسنة بذكره، وترتفع الأيادي بالدعاء إليه، يوم أمس، نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ابتهال «إليكَ إلهي»، فقدم إضاءات روحية عميقة في باب الرجاء والتوكل الإلهي، وهو مقام من أفضل مقامات العارفين، يروّضون فيه قلوبهم على العمل والمُجاهدة والصبر، ويتركون التمني، ويركنون إلى سعة الله ورحاب الحكمة، وفي ذلك قال منصور بن عمار، كما ورد في «حلية الأولياء»: «إن الحكمة تنطق في قلوب العارفين، بلسان التصديق، وفي قلوب الزاهدين، بلسان التفضيل، وفي قلوب العباد، بلسان التوفيق، وفي قلوب المريدين، بلسان التفكير، وفي قلوب العلماء، بلسان التذكير، ومن جزع من مصائب الدنيا، تحولت مصيبته في دينه»، ويقول في الرجاء ابن النحوي التوزري:

لبست ثوب الرّجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجـدُ

أشـكو إليك أمـوراً أنت تعلمهـا مالي على حمـلها صبرٌ ولا جلَدُ

خلال شهر رمضان المبارك، جاءت هذه الابتهالية، رفقة توأمها الشعري «تسابيح»، بعد ابتهالين شعريين نوعيين سابقين هما «وقفتُ أمام بابك» و«مقامي»، كان فيهما سموه عَجولاً إلى الخير في مطلعهِ، وخيرُ البر عاجله، يسألُ الله، وتلك المسألة المُجازة التي تدخل ضمن القرُبات والمناسك التعبدية، ينهلُ من سنُن المصطفى وتعاليم أحاديثه المباركة التي حضت على الدعاء، يخاطب مولى كريماً، مجيب المضطر إذا دعاهُ، يفتتحها بتعطش لهذا السؤال، وشوق كبير إلى جنابه العظيم.

رسيس الرجاء

ولا يختلفُ كثيراً هذا الابتهالُ عن الابتهالين السابقين في السياق، وإن خصّص المضمون بشكل عام لوجه واحد من أوجه الرجاء، استنبط فيه أفضل الآيات من الذكر الحكيم، ومن كلام سيد الخلق، وقدمه بلغة شعرية بسيطة الطرح، اختارت لقاموسها ألفاظاً رشيقة موسيقية الإيقاع، مضيئة في حمولاتها، روحانية في سبكها، ومن ذلك قوله:

وإنَّ رجائي فيهِ ما ذرّ شارقُ وما حانَ منْ شمسِ النهار أفولُ

فواللهِ وجدي لا شفاً لرَسيسهِ إلى حينَ يدُنيني إليهِ وصولُ

فالقارئ والسامع لا يخفى عليهما الإيقاع والجرس المُختلف الذي تتركه في نفسهما كلمتان، هما «شارقٌ» و«رسيسهُ»، ففي الأولى وظّف تعاقب آيتي اليل والنهار، وشروق الشمس وأفولها، وهو يستقي في هذا البيت من الحديث الكريم: «إن الله - عز وجل - يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها»، وهذا حالُ العبد المؤمن بين الآيتين الزمنيتين، حاله الرجاء، وفي الكلمة الثانية «رسيس» ألقى بحبال الوجد عميقاً، فجعلها راسخة ثابتة الأوتاد، فالكلمة مشتقة من فعل «رَسَّ»، ويقال رَسَّ الغَرَامُ فِي قَلْبِهِ: دَخَلَ وثَبَتَ، ورَسَّ الْمَرَضُ فِي جِسْمِهِ، وهو يقول لا شفاً لرَسيسهِ، فالرسيس هو الشيء الثابت الذي لزم مكانه، ويعبر عن الشوق بوجد وكلف أتلف المُهجة، وداداً إلى من تتوق إليه الروح والنفس، وعبر عن ذلك بمحبة لا تطفئها إلا شآبيب الوصول، ويبلغُ منتهاه في هذا التعلق حين وصل هذا البيت:

نهاري نهارُ التَّالفينَ صبابةً وليلي إذا عزَّ الرَّجاءُ يطولُ

مساحات الروح

يقتطعُ من ندائه العلوي، مساحات أفرغ فيها رجاءات الروح، واستعطف عطاءات من نحنُ الفقراء إليه، فهو المرجعُ، يعترينا أمامه الخجلُ من أفعالنا، في يوم جلل، هو يوم الحساب، وهنا، يتذكرُ القارئ لهذه الأبيات، أبياتاً ابتهالية شهيرة للإمام علي بن أبي طالب، يقول فيها:

إِلَهي لا تُعَذِّبنــي فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّـذي قَــــد كــــانَ مِنّــــي

فَما لي حِيلَةٌ إِلا رَجائي بِعَفوِكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنِ ظَنّي

يتساءل في «إليكَ إلهي» عن الحجة عند السؤال، حين تقف الألسنة عاجزة عن الجواب، وهي تنتظر لطف الله وجوده ورضاه وقبوله.

«تسابيح» شعرية تناجي عظمة الرحمن

لعل من أهم الإضافات التي يرفد بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الحياة الثقافية والدعوية الإسلامية، من خلال سلسلة ابتهالاته الدينية الأخيرة، ذلك التوجه بالنص الشعري نحو فضيلة الثناء على المولى عز وجل، فهذه فريضة غائبة في مجال الشعر الذي ينصرف غالباً إلى جملة من أغراض عديدة، من بينها مديح المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيكتفي الشعراء بذلك، مع نزر يسير من الثناء الذي يتخلل النصوص، وأما أن ينصرف النص في مجمله إلى غرض الثناء، وإظهار آلائه سبحانه والاحتفاء بصفاته العلى وعطاياه التي لا تنفد من جرائها خزائنه، فإن ذلك مما غفل عنه الغافلون ردحاً غير قليل من الزمان.

تلبية المحبة

تبدأ قصيدة «تسابيح» الابتهالية بذكر الله وتنزيهه عز وجل وحده من كل نقص وعيب وعجز وشبيه وشريك، تعظيماً لشأنه وإجلالاً لقدره، ولذلك فإن التسبيح والذكر يعدان بمنزلة جوهرة العبادة المخلصة، فالصلاة ذكر وتسبيح والحج، وإن من شيء إلا يسبح لله، ومن هنا ينطلق سموه في شهر رمضان الكريم هذا، بتواضع جم، ليستهل ابتهاله الجديد بالالتفات إلى تسبيح السماء، وتلبية للمحبة الخاصة التي يخص الله تعالى بها المسبحين بحمده، يقول الشيخ محمد بن راشد:

سَبَّحَتْ باسمكَ المَجيدِ السمَّاءُ وتسامتْ باسمك الأسماءُ

مكمن الجمال في هذا البيت الاستهلالي في توظيف فنون البديع من جناس وطباق ومقابلة وتورية وغيرها من فنون علم المحسنات البديعية التي تقع في قلب البلاغة العربية على مر الزمان، ونلمس ذلك في نظم وتجانس مفردات: أسماء وسماء وتسامت، ويتجلى جمال السبك أيضاً في صورة أخرى من صور التعبير الشعري الجزل، تسبيح السماء باسم الرحمن مقابل تسامي الأسماء باسمه جل وعلا. كيف؟

في الأولى «سبّحت باسمك السماء» نجد معناها في قوله تبارك وتعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ»، فالسماء بعلوها تسجد لله وتخضع فتسبح بحمده، وفي الثانية نجد أن اسم الله تعالى الذي تلهج به السماء يصبح سبباً في سمو أسماء الناس، فيسمو اسم عبد الله وعبد الرحمن وعبد المجيد بأسماء الله تعالى: الله، الرحمن، المجيد.. إلخ، وإن خير الأسماء ما عُبّدَ وحُمّد (عبد الرحمن ومحمد) مثلاً. هذا التفنن في بناء النص يدل على فطنة ومهارة تميز سموه في تطويع اللغة بما يمتلك من قاموس يسمح له بتوظيف الكلمات المناسبة في المواضع المناسبة.

عشق المحسنات ظاهر في القصيدة، ونجد أثره في غير مكان، كقوله أيضاً:

سَبَّحتْ باسمكَ الحميدِ البرايا وتعالىَ إلى عُلاكَ الدُعاءُ

الغرض التعبيري

حيث «تعالى» و«علاك» تتجانسان لأداء الغرض التعبيري المتجلي في ارتفاع الدعاء إلى أعلى شأو، حين ينتهي إلى الله عز وجل. وهذه انتباهة لطيفة وغير دارجة، فلا شيء ينتهي إلى الله تعالى مباشرة فوق عرشه إلا الدعاء، فلا الملائكة ولا الرسل ولا شيء إلا الذكر، غير أن الدعاء بين كل الذكر يصعد مباشرة إلى رب العالمين إذا استوفى شرطه وخلص لوجهه، أو كان دعاء مظلوم أو مكروب يتعالى حتى ينتهي إلى السميع البصير، فلا تحجبه سماء ولا يرده ملاك، ولذلك يقول سموه: «وتعالىَ إلى عُلاكَ الدُعاءُ».

تواضع

مناجاة الشيخ محمد بن راشد ربه في هذا الابتهال تتحرى مطلباً آخر شديد الأهمية، خاصة في حالة كحالة أمير ذي أمر ومهابة مثله، حين يظهر حاجته وتواضعه بين يدي ربه كما يليق بمؤمن تقي القلب سمح السجايا، يقف مناجياً ومستذكراً يوماً لا ريب فيه، يخشى أهواله وسؤاله حينما تُنْصَبُ الموازينُ يوماً.

لقد برزت في ثنايا هذا الابتهال «تسابيح» إشارات مضيئة وكثيرة تدل على عمق تعلق الشاعر بربه على نحو خاص شديد الخصوصية، كما أبرزت القصيدة وعياً بأهمية الذكر وأهمية امتداح صفات الخالق العظيم وقدرته وآلائه، وهو ما انطوت عليه القصيدة ببساطة ومحبة وتدفق مشاعر.

© البيان 2016