كجزء عزيز من بلاد المغرب وشمال أفريقيا، وكأول أرض بدأت فيها ثورات الربيع العربي، نجد أنه من المهم أن نعرف أكثر عن تونس، اقتصادها وأهم ملامحه. ومع اندلاع الاحتجاجات الأخيرة، دعونا نحاول أن نسلط الضوء هنا على أهم ما يميز "تونس الخضراء"، اقتصادها، مواردها، فرصها وتحدياتها.

إلا أننا نؤكد هنا أننا سنحاول أن نكون مختصرين، كما أننا لسنا بصدد "تقييم" لثورة هنا أو حكومة هناك، ولكننا سنعرض فقط أهم ملامح الخريطة الاقتصادية التي تقف عليها تونس الآن، يغض النظر عن كيف ولماذا.  

مراحل الاقتصاد التونسي: المسار المتشابه.. والقصة التي قرأناها مراراً..  

تمثل تونس، رغم مساحتها الصغيرة نسبياً (163.6 ألف كم2) وتعداد سكانها البسيط (ما يقرب من 12 مليون نسمة) صورة نمطية لكثير من الدول النامية والاقتصادات العربية الناشئة التي مرت بنفس المراحل تقريباً:  

(1) مرحلة الاقتصاد ذي الهوى الاشتراكي منذ الاستقلال خلال الخمسينات والستينات مع الاعتماد على القطاع العام في تحقيق النمو. 

(2) ثم تبني سياسة الانفتاح في السبعينات والتي اعتمدت على مزيج غريب بين التصنيع  المحلي بغرض استبدال  الواردات وترويج الصادرات مع تواجد مشترك للقطاعين العام والخاص.   

(3) ثم أزمة اقتصادية خلال الثمانينات، خاصة بعد مرحلة من تفاقم الديون الخارجية خلال العقد السابق، تلك الأزمة التي تزامنت مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في العالم كله مع انهيار أسعار النفط خاصة مع الإخفاق في تحول الاقتصاد التونسي من اقتصاد ريعي يعتمد على الموارد الطبيعية  المحلية مثل النفط والغاز على سبيل المثال بدون الحاجة إلى  تطويرها، إلى اقتصاد منتج.  

(4) تبعها محاولة إصلاح الاقتصاد من خلال إطلاق برنامج الإصلاح الهيكلي في 1986، تلك المرحلة التي نراها متشابهة إلى حد التطابق في الدول العربية ذات الاقتصادات الناشئة.  

(5) ثم محاولة التحول نحو اقتصاد أكثر تحرراً وتشجيعاً للقطاع الخاص في التسعينات من خلال مجموعة من التشريعات الجديدة التي تشجع الاستثمار الأجنبي، الاشتراك في اتفاقيات لحرية التجارة الخارجية، مع تحرير الصناعات المحلية منذ منتصف التسعينات. 

(6) مرحلة من النمو الاقتصادي المرتفع نسبياً، بمتوسط 4.5%، خلال العقد الأول من الألفية الحالية (2000 - 2010)، مع تزايد حجم قطاع الخدمات وتطور بعض الصناعات مثل الصناعات الإلكترونية والميكانيكية.  

(7) إلا أن الأرقام الواعدة التي اتسمت بها مؤشرات الاقتصاد التونسي خلال تلك المرحلة (2000 - 2010) لم تعبر بشكل كاف عن واقع أحوال المواطنين، فلم تفلح السياسات الاقتصادية آنذاك في تحقيق ما يحتاجه الشعب بشكل حقيقي من تنمية ورفاهة. فيكفي هنا أن نذكر أن البطالة ارتفعت بشكل حاد خاصة بين الشباب المتعلم، حيث ارتفعت من 3.8% في 1994 إلى 21.6% في 2008 لهؤلاء الذين أكملوا تعليمهم العالي. فإذا أضفنا غياب المنافسة وضخامة العوائق البيروقراطية لنا أن نتخيل الطريق الذي أدى إلى الثورة التي بدأت موجة الربيع العربي.  

كانت تلك أهم ملامح "رحلة" الاقتصاد التونسي،  فماذا عن الآن؟ وما هي ملامح أزمة الاقتصاد التونسي الحالية؟  

نكرر أننا هنا لسنا بصدد تقييم ثورة الياسمين، إلا أنه بطبيعة الحال يأتي التغيير السياسي والحراك المستمر بتكلفة اقتصادية قد يراها البعض أشد من المحتمل. فعلى مسار عقد كامل، لم يشهد اقتصاد تونس التعافي المطلوب ولم تنجح الجهود المختلفة في تحقيق ما يطمح إليه التونسيون، ثم جاءت جائحة كورونا لتسكب الملح على الجرح، لتعلن ارتفاع حرارة الفقر والبطالة.  

فالمشكلة هنا ليست المؤشرات الاقتصادية وتعافيها، بل وجود بعض العوائق التي تمنع التونسيين من تحقيق ما يريدون في وقت قصير. فعلى مدار عقود، تسببت بعض السياسات في أوجه قصور تحتاج سنوات طويلة لوضعها على مسار التصحيح.  

فمثلاً، تسببت السياسات الاقتصادية خلال سنوات في توجه رأس المال إلى صناعات منخفضة نسبياً في القيمة المضافة، فضلاً عن التركز الجغرافي الشديد في المناطق الساحلية والتي بطبيعة الحال ولأسباب لوجيستية، تجتذب الشركات والمشروعات ذات التوجه التصديري، والتي بالتأكيد تحظى بالحوافز الاستثمارية المختلفة، وهو ما تسبب في تباين شديد في فرص العمل والتنمية في المناطق المختلفة. مثل تلك الاختلالات لن تختفي بين عشية وضحاها، وتحتاج سنوات مستمرة من العمل الجاد لإصلاحها.

وقد شهدت سنوات العقد الماضي معدلات نمو منخفضة، بمتوسط 1.8% من 2011 وحتى 2019، وهي طبعاً لا تكفي لخلق ما يطمح إليه التونسيون من فرص عمل مناسبة.   

وهو ما يعني أن جائحة كورونا قد جاءت في أسوأ توقيت ممكن، حيث ستتسبب في المزيد من البطالة وارتفاع معدلات الفقر، وهو ما ينذر به البنك الدولي حيث يقدر ارتفاع معدلات الفقر من 14% من السكان قبل الجائحة، إلى 21% في 2020، وسيكون ذلك الأثر واضح بوجه خاص عند الأسر الأكثر فقراً والمتركزة في وسط غرب تونس وكذلك الجنوب الشرقي منها. بينما أجمع البنك الدولي وصندوق النقد على انكماش كبير في معدل النمو الاقتصادي خلال نفس العام، قدره البنك بحوالي 9.2% بينما كان تقدير الصندوق حوالي 7%.   

وانخفاض النمو هو جزء من دائرة مفرغة سيئة يواجهها الاقتصاد، حيث نمو أقل يعني إيرادات ضريبية أقل، ومن ثم ديون أكثر. فخلال السنوات العشر السابقة، ارتفع إجمالي الدين الحكومي من 39% من إجمالي الناتج المحلي في 2010 إلى 78% في 2018، ثم 72% في 2019، مع توقعات بكسر الـ 80% خلال السنوات القادمة بسبب الجائحة.  

 وما نخشاه، هو أن يكون العلاج أكثر ألماً من المرض نفسه. فالمؤسسات الدولية جميعها تتحدث بنفس الطريقة، عن ضرورة تحقيق الاستقرار الاقتصادي وترشيد القطاع المالي لوضع حد لتفاقم الديون، وهو ما ينطوي على ترشيد الإنفاق وهيكلة الدعم وما إلى ذلك، وهي حلول لها تكلفتها الاجتماعية وستضع ثقل أكبر على كاهل المواطنين.

إلا أننا نرى أمل قد يظهر مع تلاشي الجائحة تدريجياً، حيث يعود النشاط الاقتصادي لالتقاط أنفاسه، ويعود قطاع السياحة تحديداً للحياة. قد يكون حينها هناك مجال للحديث عن برامج الإصلاح أو ترشيد النفقات وإعادة هيكلتها. أما الآن، فمن الصعب وضع المزيد من الوقود على نيران المعاناة الاقتصادية والاجتماعية. 

 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة.

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.