هو ليس أكثر النوادي الأوروبية حصولا على البطولات. وهو - في نظر البعض- ليس أجملهم لعبا، ولا أكثرها اكتظاظا بالسوبر ستارز.

لكن شهرته الطاغية في آسيا وأمريكا، والتي تفوق أباطرة الكرة الأوروبية والإنجليزية، لا يمكن انكارها. يطلق مانشستر يونايتد على نفسه لقب "أكبر نادي في العالم" رغم إحرازه 3 كؤوس دوري أبطال أوروبا فقط في تاريخه مقابل 14 لريال مدريد و 7 لنادي اي سي ميلان. بل تم إطلاق هذا الإسم عليه في وقت لم يكن أصلا الأكثر إحرازا للدوري داخل بلاده. 

فما سر تفرد هذا النادي الإنجليزي المعشوق حتى الجنون حول العالم؟ 

الإجابة في البيزنس، الإدارة والنقود.

عقلية فذة

الحكاية بدأت في الثمانينات، أحد أكثر الفترات كآبة على الكرة الإنجليزية: انهيار في مستوى الملاعب والفرق وانتشار ظاهرة الهوليجانيزم والشغب.

وأبرز تلك الامثلة مذبحة هيسل في بروكسل في نهائي دوري الأبطال بين ليفربول و يوفنتوس و التي راح ضحيتها 39 مشجع عام 1985 و التي تسببت في حرمان الأندية الإنجليزية من اللعب في البطولات الأوروبية لمدة 5 اعوام ، و فاجعة هيلزبره التي راح ضحيتها 96 مشجع من جماهير ليفربول بالإضافة إلي حوادث أخري عديدة مثل أحداث الشغب العنيفة التي تسبب فيها جماهير ميلوول في مبارته ضد نادي لوتن في ربع نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي عام 1985 و التي دفعت مارجرت ثاتشر إلي تشكيل لجنة حكومية لمجابهة الظاهرة. 

مانشستر يونايتد لم يكن أفضل حالًا; فريق لم يحرز الدوري منذ عشرين عام، يتحسر مشجعوه على أيام مدربهم الأسطوري مات بازبي صاحب أول بطولة أوروبية لنادي إنجليزي عام 1968 و"ثالوثهم المقدس": جورج بيست، بوبي تشارلتون و دينيس لو.

في خضم هذا الظلام تولى رئاسة النادي رجل صاحب عقلية ورؤية اقتصادية فذة، استطاع الصعود بالنادي إلى القمة، وغيّر كرة القدم حول العالم إلى الأبد.

مارتن إدواردز اختلف بشكل جذري عن رؤساء النوادي الإنجليزية في ذلك الزمن. كان العرف جرى على أن يرأس الأندية رجال أثرياء يديرون الأندية بعقلية الهواة. رئاسة تلك الأندية لم تمثل بالنسبة لهم أكثر من مصدر للوجاهة الاجتماعية داخل مدنهم ومجتمعاتهم. لم يفكر أحد في تعظيم الأرباح أو تحويل كرة القدم إلى صناعة والنوادي إلى مؤسسات اقتصادية، كما جرت العادة أن يتم توريث رئاسة وإدارة الأندية للأبناء والأحفاد.

أدرك الداهية إدواردز أن النادي الرياضي يمكنه أن يتحول لمؤسسة اقتصادية هادفة للربح. وساعده الحظ بوصول المرأة الحديدية مارجريت تاتشر إلى رئاسة وزراء بريطانيا 

وتوجهها النيوليبرالي الرامي إلى تحرير الاقتصاد وخلق مناخ منفتح لرجال الأعمال، بالإضافة إلى الحرب الشعواء التي شنتها على شغب الملاعب والهوليجانز.

ولسنا بصدد الحديث عن قرارات إدواردز التي غيرت مسار مانشستر يونايتد من الناحية الرياضة، ولكن يكفي الإشارة إلى تعيين الداهية الاسكتلندي أليكس فيرجسون كمدرب عام 1986 ، والصبر عليه 4 سنوات حتى تحقيق أول بطولة. 

الثورة التجارية

لم يكن إدواردز يمتلك حصة الأغلبية في نادي مانشستر يونايتد، فقرر رهن بيته وشراء حصص المساهمين الصغار في النادي، وهم في الغالبية من مشجعي النادي الأوفياء الذين يمتلكون القليل من الأسهم. كان هدف ادواردز في الأساس هو التحكم في النادي حتى يمكنه فرض رؤيته الجديدة وتمريرها. 

بعدما سيطر على مفاصل النادي، بدأ في ثورته التجارية وقرر التعاقد مع شارب اليابانية والتي كان لها مصنع كبير في مدينة مانشستر ووضع لوجو الشركة على التيشرت مقابل نصف مليون جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير بمقاييس العصر، ومهول بمقاييس عقود الرعاية لفرق كرة القدم وقتها. 

في تلك الحقبة كان المدربين هم من يتفاوضون على مثل تلك العقود، وهم غير متخصصين في الادارة والبيزنس، وبالتالي كانت العوائد منخفضة. كذلك، كانت أموال الرعاية تذهب للاعبين في صورة مكافآت أو مرتبات ولا يتم استثمارها حتى تأتي بأرباح مستدامة.

تعاقد إدواردز أيضا مع شركة "ادميرال" لتصنع ملابس الفريق مقابل 15 ألف جنيه استرليني، وهو مبلغ متواضع وقتها، لكنه كان بداية تغيير عقلية إدارة النادي والبحث عن مصادر دخل متنوعة بعد أن كان النادي يعتمد بالكامل على عوائد تذاكر المباريات فقط. 

تلك الاستراتيجية تطورت، وال 15 ألف جنيه تحولوا إلى 300 مليون جنيه عام 2000 في صورة عقد رعاية مع نايك الأمريكية.

مسرح الأحلام والبورصة

ملعب اولد ترافورد في الثمانينات لم يكن ذلك المسرح الحالم الذي نعرفه اليوم، والذي شهدنا عليه سطوع نجم الوسيم ديفيد بيكهام وأسطورة يونايتد إيريك كانتونا. 

كان صرحا عريقا وتاريخيا نجي من ضربات النازيين في الحرب العالمية الثانية، لكنه تهالك كأغلبية ملاعب بريطانيا في ذلك الوقت وبالتالي لم يكن يليق بنادي رومانسي مثل مانشستر يونايتد.

 قرر إدواردز زيادة سعة الإستاد وتجديده. لكن لتوفير الموارد لتحقيق ذلك الهدف، لجأ رئيس النادي إلي حيلة تعد نقطة تحول في تاريخ الكرة الإنجليزية: تحويل نادي مانشستر يونايتد إلى شركة مساهمة وإدراجه في البورصة وبالتالي تخطي كثير من العوائق والقيود على الإنفاق والاستدانة التي كان يضعها القانون الإنجليزي على أندية كرة القدم الإنجليزية. وهكذا استطاع جذب أفضل الكفاءات الإدارية والفنية لإدارة النادي بالإضافة إلى اجتذاب أفضل اللاعبين.

أما ملعب أولد ترافورد، فبجانب زيادة سعته والتي رفعت من عوائد التذاكر، تم إستغلال هذا الأصل لأغراض غير كروية وإقامة حفلات كبرى تدر عوائد إضافية للنادي. كما أنشأ ما يسمى بالـ Executive Box وهي أماكن مخصصة للأثرياء وكبار الزوار تباع تذاكرها بأسعار  خرافية، مما ساهم في تضخم أرباح المارد الأحمر.

ربما تبدو تلك الأفكار عادية وبديهية اليوم، لكن مانشستر يونايتد استفاد بأن كانت له الريادة في إدخالها في المجتمع الكروي البريطاني المعتز بتقاليده العريقة.  

التجربة الأمريكية

لم تتوقف نظرة إدواردز الثاقبة عند ذلك الحد، فقد أدرك الرجل قيمة شعار النادي وقوته وتأثيره الجارف وضرورة  بيعه وتسويقه واستغلاله تجاريا. وضع شعار نادي عظيم مثل مانشستر يونايتد على أي منتج لابد أن يكون له سعر وأن يباع في السوق مثله مثل أي منتج آخر. 

لذا أدرك إدواردز أهمية ما يعرف الآن بالميجاستور للأندية الرياضية. إذا ذهبت لأي من اندية القارة الأوروبية الأن ستجد متجر للنادي ملحقا به يتم بيع مختلف المنتجات وعليها شعار النادي.

 لم يكن ذلك المفهوم متعارف عليه وقتها لكن ذلك الثعلب كان سابقا لعصره. كان متجر نادي مانشستر يونايتد في الثمانينيات ملك عائلة مدربهم التاريخي السير مات بازبي والذي كان قد تم اهداءه له بسعر رمزي كتكريم على مجمل أعماله مع النادي. لم يرض إدواردز بهذا الوضع الغير استثماري فقرر شراؤه من عائلة بازبي وحوله إلى ميجاستور عصري كما نعرفه الآن.

 لابد من الإشارة إلى أن إدواردز تأثر بالموديل الأمريكي في إدارة الرياضة وبالأخص دوري كرة القدم الأمريكية NFL، وهي  فلسفة تنظر للرياضة كمنتج وسلعة ترفيهية مثلها مثل المسرح والسينما، مما دفعه أيضا لإنشاء قسم التسويق هو الأول من نوعه على مستوى أندية بريطانيا.

 بحلول عام 1994 أصبحت أرباح يونايتد من المتجر تقارب 44 مليون جنيه إسترليني وفي عام 1998 أصبح رأسمال نادي مانشستر يونايتد يساوي مجموع رأسمال ناديي أرسنال وليفربول - وهذا الأخير كان أكثر الحائزين على بطولة الدوري وقتها.

تفوق مالي رياضي وبالعكس

 تفوق مانشستر يونايتد الاقتصادي إنعكس على أرضية الميدان، دوري تلو الآخر وكأس تلو الآخر حتى تحقيق ثلاثيته التاريخية عام 1999. التفوق الرياضي ساهم بدوره في تعزيز ذلك التفوق الاقتصادي عن طريق الجوائز المالية السخية مما أتاح للنادي شراء أفضل لاعبين على مستوى العالم وصرف أعلى مرتبات على مستوى الدوري. 

القدرة على شراء لاعبين أكفاء بكثرة مكنت السير أليكس فيرجسون من ابتداع فكرة تعتبر عادية الآن في أوساط الكرة الإنجليزية ولكنها كانت ثورية وقتها: الـDeep Squad أو الفرقة العميقة. مكّن الـDeep Squad السير أليكس من تدوير الفريق على مدار الموسم بحنكة كبيرة للحفاظ على لياقة وأداء اللاعبين والقدرة على المنافسة على أكثر من بطولة في نفس الوقت دون إهتزاز يذكر في المستوي. حتى أن مانشستر يونايتد فاز ببعض بطولات الدوري بدون تكرار نفس التشكيل مرتين في نفس الموسم! 

بيكهام، فيكتوريا والثورة الشبابية

علينا النظر للأرقام لفهم حجم النجاح الذي نتحدث عنه: وصلت قيمة نادي مانشستر يونايتد أو بمعنى أصح شركة مانشستر يونايتد عام 2000 إلي مليار جنيه استرليني على حجم عمالة لا يتجاوز الـ500 فرد!

ومع مطلع الألفية أصبح يونايتد قادر على كسر الرقم القياسي البريطاني في سوق الإنتقالات بشكل شبه روتيني. في موسم 2000/ 2001 استطاع الشياطين كسر الرقم القياسي 3 مرات في نفس العام عندما تم التعاقد مع المهاجم الهولندي نيستلروي من ايندهوفن والأرجنتيني خوان سيباستيان فيرون من لازيو وأخيرا المدافع الإنجليزي ريو فرديناند من نادي ليدز يونايتد الغريم الأزلي للشياطين الحمر.

نجاح يونايتد الكروي في التسعينات والألفينات تزامن مع الثورة الشبابية والثقافية والغنائية التي اجتاحت بريطانيا في التسعينات والتي سميت بـCool Britannia خاصة مع قدوم رئيس حزب العمال الجديد توني بلير والأمل في مستقبل أكثر ازدهارا وإعادة إكتشاف المجتمع البريطاني نفسه في مرحلة ما بعد الإمبراطورية.

ديفيد بيكهام وزوجته فيكتوريا كانا جزء لا يتجزأ من تلك الثورة وأصبحوا رمز للمرحلة مما ساهم في زيادة الهوس والجنون بمانشستر يونايتد في أنحاء العالم برغم من عدم كونه النادي الأكثر تتويجا على الإطلاق. 

منذ ذلك الحين أصبح مانشستر يونايتد أهم براند كروي في العالم، أهم من اندية عريقة مثل اليوفي والميلان وليفربول وأرسنال وبايرن ميونيخ.

فقط يكفي أن تشاهد واحدة من تلك المباريات بين المارد الاحمر والميرنجي ريال مدريد في الجولة الصيفية في الولايات المتحدة وآسيا قبل بدء أي موسم… لن تخطئ عيناك اللون المسيطر على جنبات المدرجات: الأحمر ثم الأحمر ثم الأحمر.

(إعداد: حسين محرم معاون وزيرة التخطيط للسياسات الاقتصادية في مصر، حاصل على ماجستير اقتصاد من جامعة مانشستر)  
#مقالرأي