قبل أن يبتلع الناس مفهوم البلوك تشين Blockchain والعملات الرقمية أو المشفرة  Cryptocurrencies بشكل كامل، وحتى قبل أن يفهمها عموم الناس دون الغرق في تفاصيل تقنية معقدة، ظهرت ثورة جديدة في عالم التعاملات الرقمية وهي الرموز غير القابلة للاستبدالNon-Fungible Tokens NFTs ، لتغرق المهتمين بأمور التكنولوجيا من ناحية والأسواق والتداولات من ناحية أخرى في مزيد من التفاصيل والمصطلحات الجديدة. فبينما تمثل العملة الرقمية – سواء اختلف الاقتصاديون أو اتفقوا على كونها عملة أم أصل – قيمة قابلة للتداول أو التحويل فيما بين طرفين، جاءت الـNFT في مجال أكثر تسليةً: صناعة المحتوى والفن الرقمي وجمع النوادر.. أو على الأقل هذا هو معظم مجالها حتى الآن.

ورغم اختلاف مضمون البيتكوين والرموز غير القابلة للاستبدال، إلا أن كلاهما يعتمد على تقنية البلوك تشين. 

 "غير قابلة للاستبدال"

دعونا نبدأ من الجزء الأخير في اسمها: غير قابلة للاستبدال. فببساطة شديدة، إذا ما تحدثنا عن البيتكوين على سبيل المثال، نجد أن كل عملة بيتكوين هي مماثلة لعملة بيتكوين أخرى، نفس القيمة ونفس الأهمية لحائزيها. فإذا قام أحدهم ببيع 5 بيتكوين نظير 5 بيتكوين لمتعامل آخر، لا ينتج عن تلك المعاملة فارق في موقف أي منهما، ما حدث هو نوع من "الاستبدال" لشيء يعتبر هو نفسه، ولذا فهي تعتبر قابلة للاستبدال.

ومن هنا نفهم المصطلح العكسي. فالرموز غير القابلة للاستبدال تعني أن كل رمز هو في ذاته نسخة واحدة فقط، لا يمكن استبداله بغيره لأنه – ببساطة – لا يوجد غيره. كل رمز غير قابل للاستبدال هو متفرد في ذاته، ويتعلق بأصل مختلف عن الرموز الأخرى، وبالتالي يختلف في قيمته عن غيره رغم أنهم من نفس النوعية. 

أما النصف الأول من الاسم، الرمز، فهو مصطلح تقني فقط للتعبير عن كونه وثيقة أو شهادة إثبات، ممكن شرحها ببساطة كـ"صورة مشفرة موجودة على البلوك تشين". وإن كنت لا تهضم مفهوم البلوك تشين بعد، لك أن تتخيلها كسلسلة من البيانات والمعاملات المسجلة على سلسلة أو مجموعة كبيرة من الأجهزة التي يمكنها التحقق من صحة معلومة وتوثيقها على جميع أجهزة السلسلة بشكل لامركزي، لذا من الصعب التلاعب فيها. 

دعونا نتحدث عن مثال في العالم المادي المألوف لنا. تخيل مثلاً أن شركة ميرسيدس قد أنتجت سيارة بمواصفات خاصة ولها إصدار واحد، سيارة واحدة فقط من نوعها. فيعني ذلك ببساطة أنك لا يمكن أن تستبدلها بميرسيدس أخرى، ولا يمكن أن يستخدم لفتحها مفتاح سيارة أخرى، هي قطعة واحدة "غير قابلة للاستبدال". كذا هو الرمز غير القابل للاستبدال. هو وثيقة رقمية مشفرة واحدة فقط لامتلاك أصل واحد فقط من نوعه، قد يكون لوحة، صورة، ملف صوتي أو فيديو أو حتى تغريدة على موقع تويتر. 

ولن ندخل هنا في التفاصيل المعتادة للمقالات التي تناولت هذا الموضوع، فلن نتحدث كثيراً عن التصميم الرقمي الذي بيع كرمز غير قابل للاستبدال في مارس 2021 نظير 69  مليون دولار، ولا عن اللقطات الهامة والمميزة لبعض لاعبي كرة السلة العالميين أمثال ليبرون جيمس نظير أكثر من 200 مليون دولار قبلها بشهر واحد. 

حقوق الأصل

عندما تمتلك رمز غير قابل للاستبدال NFT فأنت تمتلك وثيقة مشفرة لأصل ما، لكنك لا تمتلك حقوق الأصل ذاته. بمعنى آخر، فإن امتلاكك رمز غير قابل للاستبدال لا يعني أنك حصلت بالتبعية على حقوق الملكية الفكرية لأصل ما، هو – حتى هذه اللحظة – يمثل على الأغلب محتوى رقمي كفيديو أو لوحة أو صورة أو ملف صوتي. 

وإن كان حتى الآن لا يمنع وجود رمز غير قابل للاستبدال من نسخ أو تداول المحتوى الرقمي على الإنترنت، إلا أنه من المتوقع مع تطور استخدام تقنية البلوك تشين أن تحتوي معاملات الـ NFT على تقنيات تمنع نسخ المحتوى بشكل غير رسمي، أو "تزويره". 

وهذا هو مربط الفرس: ملكية فكرية وحقوق مادية... 

ففي عالم الإنترنت، لم يكن يوماً الحصول على محتوى رقمي مشكلة، ولم تكن كيفية الحصول على صورة، أغنية، أو رسم ما، محل تساؤل أو ندرة، بشكل حتى يمنع بعض المبدعين وصانعي المحتوى من ثمار ما ينتجوه من حقوق ملكية فكرية وتحديداً على الجانب المادي، بما غير من أشكال صناعات برمتها في عالم الترفيه. 

دعونا نستحضر مثال. فقديماً، أو بالأحرى ليس قديماً جداً فنحن نتحدث عن مرحلة حتى أواخر التسعينات، كان المطربون وصانعو الموسيقى يحققون ربح مادية من بيع نسخ من ألبوماتهم  - شرائط الكاسيت - ويفخرون بحجم المبيعات والتوزيع كمقياس واضح للنجاح. وبعد انتشار استخدام الإنترنت، تحول الحصول على أغنية ما إلى ضغطة فأرة دون دفع شيء تقريباً، فتحول السوق كلياً.

لا، لم يكف المنتجون والمطربون عن صناعة محتواهم، وإنما تحولت أصول اللعبة إلى "التصالح مع مجانية الوصول إلى الأغاني"، والرهان على نجاحها وشهرة صانعيها لتكسب بطرق أخرى: إقامة حفلات مثلاً أو التعاقد على إعلانات أو تقديم البرامج كمذيعين وغيرها، تعتمد على تحقيق مشاهدات عالية تستند إلى شعبية الأغاني التي قدموها في الأصل. 

وهنا، تأتي الرموز غير القابلة للاستبدال ببعض التغييرات التي قد تغير قواعد اللعبة مجدداً حتى لو على مدار سنوات قادمة، حيث تعيد مفهوم "الندرة" للمحتوى، ذلك المفهوم الذي قتلته الإنترنت.

حيث يصنع الموسيقي رمز لموسيقاه، وربما يتيحها في مزاد لمشتري واحد بسعر خيالي – وصدقنا حين نقول سعر خيالي، فهواة جمع النوادر والأشياء الأصلية يدفعون أرقام لا تتخيلها في هوايتهم تلك – أو يقوم بصنع عدد ما من الرموز لمجموعة من المشترين أو المستمعين في تلك الحالة، على أن يحصل على ربح من كل عملية بيع لاحقة، لأنه – كما شرحنا – امتلاك الرمز لا يعني امتلاك حق نسخه. 

ولذا، أتت تلك الرموز واعدة بأمرين يحلم بهما كل مطرب أو موسيقي أو صانع محتوى إبداعي بشكل عام: الحصول على ما نسميه "إتاوة" في كل مرة يباع نتاج موهبته من ناحية، ومن ناحية أخرى إلغاء دور الوسطاء بين الموسيقي والمستمع، الذين يأكلون بدورهم جزء كبير من كعكته الخاصة.  

إلا أن الوصول لتلك المرحلة لن يكون قريباً، ومرهون بمدى تطور تلك التقنية واتساع دائرة المنخرطين فيها. وبالطبع لا يقتصر الأمر على صناعة الموسيقى، وإنما هي مجرد مثال على ما يمكن أن تحدثه التقنية الوليدة فيما يخص حقوق الملكية الفكرية وتشجيع صناعة الإبداع إن جازت لنا التسمية. 

ولكن حتى الآن، لك عزيزي القارىء أن تستمتع بموسيقاك المفضلة وأن تشاهد لقطات نادرة لهذا الرياضي أو ذاك الفنان، ولكن ابق عينيك مفتوحتين على ما يحدث من تغييرات قد تغير قواعد اللعبة وأصولها في المستقبل لصناعات كاملة، ولن تكون آخر ما تأتي به التقنيات الحديثة من تغييرات لعالمنا الذي تتغير ملامحه سريعاً.  

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

#مقالرأي