لم يكن 2022 عام سهل بأي بحال على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى الاقتصادات الناشئة بشكل أكثر تحديداً. وقد صار التطرق لأحداث السنة ممل للبعض، لكن لابد من المرور عليه سريعاً، فالعام الحافل قد بدأ والتضخم بالفعل يعصف بالعالم منذ نهايات العام السابق له، دافعاً البنوك المركزية الكبرى للتشديد المتسارع فيما لم يستعد النشاط الاقتصادي عافيته بعد بسبب تعثر سلاسل الإمداد، مع توابع جائحة لم تدخل جحرها بشكل كامل، ولم يكد الشهر الثاني في العام ينتهي حتى اندلعت الحرب في أوكرانيا عاصفةً بما تبقى من آمال لاستقرار الأوضاع، وبات المواطن في القاهرة على سبيل المثال يتساءل عن علاقة الحرب في أوكرانيا بسعر الدجاجة في الفيوم، ولماذا يضطر مواطن في شبرا - أحد أحياء العاصمة المصرية - أن يسدد في سعر زجاجة الزيت ثمن النزاعات العالمية بين روسيا والناتو.

وفي مطلع العام الجديد، تتجدد المخاوف، أو على الأقل التساؤلات، عما قد يحمله العام الجديد من بقايا تحديات العام السابق أو حتى تحديات جديدة، وتحديداً على الأسواق الناشئة وبالذات تلك المستوردة للسلع، حيث تتمتع الدول الناشئة المصدرة بوضع مالي مختلف.

عملات منهكة 

ومن أهم ما نراه مطروح عن تحديات هذا العام، الآثار المترتبة على تسارع الدولار خلال العام الماضي، حيث اكتسب مؤشر DXY  المعبر عن قوة الدولار أمام سلة من العملات الرئيسية حوالي 18% منذ بداية 2022 حتى الخريف، قبل أن يتراجع بعد ذلك في ديسمبر إثر تصريحات بنوايا المركزي الأمريكي الإبطاء من وتيرة رفع أسعار الفائدة. 

وقد تسبب هذا الارتفاع المتسارع للدولار خلال العام في تحديات جمة للأسواق الناشئة في ظل تشديد الظروف النقدية وزيادة فاتورة الواردات الخاصة بها، ضاغطاً بشكل كبير على عملاتها، حيث انخفض مؤشر جي  بي مورجان لعملات الأسواق الناشئة خلال نفس الفترة – منذ مطلع 2022 وحتى خريف نفس العام – بحوالي 9% من قيمته، مما أشعل التضخم في تلك الدول.

أزمة ديون في الأفق

أما عن التحدي الثاني الأبرز والذي تراه أطول تأثيرا، هو أن الظروف غير المواتية من تدني النمو وتعاظم متطلبات التمويل الخارجي مع تراكمات أزمة كورونا، أدت إلى ازدياد مخاطر أزمات الديون والتعثر في الأسواق الناشئة المستوردة للسلع، التي باتت في حيرة بين التوسع في الإنفاق الاجتماعي لحماية فئاتها الأكثر احتياجاً في ظل غلاء السلع وبين الانضباط المالي الذي تتطلبه استدامتها المالية والذي يأخذ في الاعتبار الديون وتراكمها وتكلفة خدمتها. 

 ومع العلم أنه من المعروف أن الأسر الأكثر فقراً تنفق النسبة الأعلى من إجمالي إنفاقها على الغذاء والتدفئة وأساسيات الحياة، وبالتالي هي الأكثر إحساساً بالأزمة.

وقد أشار مقال في مدونة صندوق النقد أن حوالي 15% من الدول منخفضة الدخل بالفعل دخلت في أزمة ديون، بينما 45% أخرى من تلك الدول معرضة لمخاطر عالية في هذا الصدد، و25% من الأسواق الناشئة كذلك معرضة لمخاطر ديون عالية. 

وقد دفعت تلك الصورة صندوق النقد الدولي للتحذير صراحةً من مستقبل الديون في الدول الناشئة، مشيراً نصاً إلى أن "اختناقات الديون في الأسواق الناشئة والدول النامية هي مشكلة متزايدة، وإنه أمر ملح وحيوي أن تكون هناك آلية فعالة من مجموعة العشرين لحل مشكلة الديون في أسرع وقت ممكن" وهي لهجة نجدها لا تخلو من "تجهم" طبيب لا يرى تحاليل مريضه مطمئنة بشكل كاف.

هل يخلو الأمر من أمل إذن؟
بالتأكيد لا. 

قد يحمل العام الحالي بعض الفرص رغم التحديات المتفاقمة. 

فبرغم أن تخوفات تباطؤ النمو عادة ليست بالضبط أخبار سارة، إلا أن تلك التخوفات تحد من الارتفاعات في أسعار السلع، وتحديداً البترول، وهو ما يعني أن الحسابات الجارية للأسواق الناشئة قد تواجه ضغوط تضخمية أقل حدة، ولا زلنا هنا نتحدث عن الدول المستوردة للسلع. 

وما دمنا نتحدث عن مخاوف النمو، قد يؤدي كذلك لهدوء وتيرة رفع الفائدة في البنوك المركزية الكبرى، وهو ما يعني أيضاً ضغط أقل على عملات الأسواق الناشئة، بل وربما يدفع كذلك صناديق الاستثمار للتفكير في العودة للاستثمار في أدوات الدين لتلك الأسواق، بعد موجة شديدة من التخارجات شهدها عام 2022، وهو ما يعني وجود متنفس في موازين مدفوعات تلك الدول، وإن كان الرهان عليه لا زال قيد التردد والدراسة. 

وربما تكمل الصورة بأن يؤدي كذلك رخص عملات تلك الدول لتقييم الاستثمار فيها بعين أكثر جرأة من العام السابق، خاصةً إذا نجحت تلك الدول في انتهاج سياسات نقدية مناسبة. 

الخوف الأكبر

إلا أن الخوف الأكبر لا زال يتعلق بقضية الديون.

ورغم أن بعض الآليات والاتفاقيات قد بدأت تلوح في الأفق فيما يخص بعض الدول، إلا أن الاهتمام الأكبر في قضية تسويات الديون وإعادة الهيكلة لا زال يتمحور حول الدول ذات الدخل المنخفض، ولا يتم التحدث عن الأسواق الناشئة والدول متوسطة الدخل بنفس القدر من الاهتمام. 

وهناك تخوف آخر، ألا تتسم الجهود العالمية في تلك القضية بالجدية اللازمة، خاصةً في الأداء الذي يراه العديد من الخبراء متواضع في قضايا المناخ، لا سيما إن قررت الدول الكبرى ومجموعات الدائنين استخدام قضايا الديون في الاستقطاب السياسي المتعلق بالصراعات الدائرة حالياً ومحاولة تحقيق أكبر مكاسب في تكوين التحالفات والمعسكرات والولاءات.

وإن كانت بعض العوامل قد تعطي صورة أقل قتامة مما مرت به الأسواق الناشئة في 2022، إلا أن ما ذكرناه لا يزال بعيد عن الحلول الهيكلية عميقة التأُثير، والتي من شأنها بالتأكيد أن تأخذ أفق زمني أبعد من 2023، وتحتاج أن يفرد لها مقالات كاملة عن ما ينقص الدول النامية والأسواق الناشئة من محددات نمو حقيقية وفعالة أبعد من مجرد الإصلاح النقدي أو زيادة جاذبية رؤوس الأموال فد تنجح عام وتخفق عام أو تهتز مع أول أزمة.

 تلك العوامل التي لابد فيها من التطرق لإصلاحات سياسية، حوكمة وسيطرة على الفساد، مراجعة كفاءة الإنفاق العام  - وليس بالضرورة ترشيده وتقليص الدعم وهو الطريق الأسهل – مع سياسات كلية محفزة للنمو و الدخول في تكتلات اقتصادية قائمة على التكامل وتعظيم منافع التجارة البينية. 

تلك هي الفرص الحقيقية التي نراها أمل تحتاج الأسواق الناشئة لتحقيقه، ونتمنى أن يتم إدراكها بشكل حقيقي حتى لا نكتب ذات الكلام عن ذات التحديات – وربما أصعب – وذات الأمنيات في مقال آخر مطلع العام القادم.

 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)
 
#مقالرأي

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)