كنا في المقال السابق تطرقنا لأجراس الإنذار التي أطلقتها الحرب في أوكرانيا حول قضايا الأمن الغذائي في الدول العربية بل والعالم ككل.. وأن بعض الدول تقوم بجهود على هذا النحو حتى قبل اندلاع الحرب لأن القضية ملحة بالأساس. 

ولكن الصعب في قضية الأمن الغذائي هو تشابكها وتأثرها بالعديد من العوامل، منها ما هو طبيعي، ومنها ما هو مكتسب ويمكن تعديله، ومنها ما يخرج حتى خارج حدود الدول ذاتها ويحتاج تكاتف عالمي لحله. وهنا، نتطرق باختصار لبعض العوامل المتشابكة التي ترسم الوضع النهائي للأمن الغذائي في الدول العربية والدول النامية عموماً.  

الأمن المائي: وهي قضية لا تنفصل بأي حال عن الأمن الغذائي. فالدول العربية جغرافيا تعاني ندرة الموارد المائية، ويكفي أن نقول أن نصيب الفرد من الموارد المائية العذبة الداخلية المتجددة بلغ في السعودية 71 متر مكعب، في الإمارات 16، وفي مصر 10 والبحرين 3 أمتار مكعبة، وذلك بالمقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 5,658 متر مكعب بحسب إحصائية البنك الدولي لعام 2018 وهي أحدث البيانات المتوفرة. وترتبط قضية الأمن المائي بعوامل عدة منها معدل السحب العالي لقطاع الزراعة من الموارد المائية، مع انخفاض كفاءة نظم الري وضعف إنتاجية المحاصيل. 

انخفاض كفاءة الأوجه اللوجستية للزراعة والصناعات الغذائية: حيث تعاني الدول العربية من ارتفاع ما يسمى بخسائر ما بعد الحصاد post-harvest losses، والذي يرجع لاستخدام طرق تفتقر للتطور وغير مناسبة أثناء مراحل الحصاد، والتصنيع والنقل. ونشير هنا إلى أن الهدر في الحاصلات الزراعية في مصر على سبيل المثال يصل إلى 15 إلى 20 % من المحاصيل التي لا تحتاج لتبريد في تخزينها كالبقول والأرز والذرة، بينما يصل إلى 25 إلى 50 % من المحاصيل التي تفسد سريعا بسبب وسائل النقل والافتقار لسلاسل توريد تتمتع بالوسائل المناسبة من التخزين والتبريد، بحسب تقرير سابق للبنك الدولي. 

ثقافة الهدر: تفتقر مجتمعاتنا العربية إلى الرفق بالموارد الطبيعية أثناء استغلالها، ومنها التعامل مع الغذاء والذي ترتفع نسب الهدر فيه في مجتمعاتنا بشكل خاص. ففي دراسة أصدرتها الجامعة الأمريكية، تذكر أن الفرد الواحد في مصر على سبيل المثال قد يتخلص من حوالي 50 كيلوجرام من الطعام سنوياً، ويتراوح معدل الهدر (نسبة ما يتم هدره إلى إجمالي الإنتاج المحلي من المحصول) بين 15 إلى 45 % حسب نوع المحصول، بينما تذكر منظمة الأمم المتحدة أن السعودية تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث نسبة الهدر في الغذاء، حيث يتم هدر بين 40 إلى 51% من الطعام. والأمر ليس بمعدل ثابت بالطبع، وإنما يختلف على مدار العام ويزداد سوءاً أثناء الأعياد والمناسبات. 
 
عوائق سياسية: فبرغم أن الحديث عن تكامل عربي أو اتحاد للدول العربية بات حلم بعيدا نوعا ما، إلا أنه يظل حل للكثير من المشاكل الاقتصادية والإنسانية، عن طريق استغلال المزايا النسبية في قطاع الزراعة والقطاع المالي، مع التنسيق في سياسات الزراعة وزيادة الاستثمارات في التكنولوجيا الزراعية والبحث في هذا المجال، كما أشار الجامعي والاستشاري البيئي اللبناني نجيب صعب. وتكمن الصعوبة هنا في ضرورة وجود رغبة سياسية متزامنة ومتوافقة في تحقيق تكامل إقليمي أو تكتل في تلك القطاعات، وهو ما قد يكون صعب في ظل خريطة الصراعات الدائرة في بعض أراضينا العربية حاليا... للأسف. 

قضايا التغير المناخي: وهو تهديد عالمي وليس إقليمي فقط، وهو أحد المؤثرات المباشرة على الإنتاجية الزراعية وسلاسل توريد الغذاء، بالذات مع اعتماد نسبة كبيرة من الزراعة في الشرق الأوسط على الأمطار، وهو ما يجعلها متضررة بشدة من موجات الجفاف والتصحر. الأصعب هنا أن جهود هذه الدول وحدها غير كاف إطلاقاً لتحسين الوضع، بل الأمر يتطلب جدية حقيقية من العالم أجمع، وتحديداً الدول الصناعية الكبرى، من ناحية لمسئوليتها عن الانبعاثات ومن ناحية أخرى لتوفير التمويل المطلوب للبرامج البيئية والتحول نحو الموارد النظيفة. 
 
الديموغرافيا وقضايا السكان: على الرغم من أنني لا أنظر عادةً للنمو السكاني المتزايد والتركيبة الشابة لبعض الدول على أنها شر مطلق، بل هي ثروة لا نحسن استغلالها. إلا أنه بالتأكيد أن النمو السكاني المتسارع يزيد من الضغط على الموارد الطبيعية ومتطلبات الغذاء ويفاقم من خطورة تراجع الأمن الغذائي، خاصةً إذا صاحبه فقر في الوعي العام واستثمار منخفض في تحسين إنتاجية الفرد وبالذات في قطاع الزراعة، والصيد والاستزراع السمكي والحيواني. 
 
وبالنظر لتلك العوامل، نرى أن الأولوية هنا لتغيير ما هو ممكن ومتاح تغييره. فالرهان على الجهود الدولية المشتركة لإنقاذ كوكب الأرض من تكاليف الحضارة القاسية قد يكون رهان غير واقعي. وإنما يمكن أن تعمل الدولة العربية بشكل دؤوب على تحسين قطاع الزراعة لديها بالاستثمار في أساليب حديثة للزراعة والري والحصاد والتصنيع والنقل، الاستثمار في البحث العلمي في مجالات الاستزراع السمكي والحيواني، مع كثير من العمل على نشر الوعي لدى الأفراد لحسن التعامل مع الموارد الطبيعية وأهمها الغذاء والماء، مع تحقيق ما يمكن تحقيقه من تكامل إقليمي في هذا المجال والاستفادة من المزايا النسبية في مجالات الأمن الغذائي حتى لا نضطر جميعاً يوماً  ما لاتباع حمية غذائية قاسية لا يمكننا تحملها. 
 
 
(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)
 
#مقالرأي