مرة أخرى، نجد أنفسنا أمام نفس الأعراض، نفس الآلام، ولكن باختلاف المريض، وباختلاف أسباب الإصابة. مرة أخرى، نرى نفس المشكلات باختلاف حدتها في ملامح المؤشرات الاقتصادية، ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام نفس مفترق الطرق وخيارات أحلاها مر.

هذه المرة نتحدث عن جزء عزيز من الوطن العربي، يمر بأوقات عصيبة على الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، وهو السودان.  

ماذا تعرف عن اقتصاد السودان..؟ وكيف دخل السودان تلك الحلقة المفرغة .. ؟ 

لا نتحدث في مرة عن مشكلات اقتصادية في دولة عربية نامية، إلا وعلى الأغلب نجد نفس الملامح المشتركة، مع اختلاف الأسباب المباشرة أو أحداث بعينها تحرك الوضع نحو نفس المسار. نمو اقتصادي منخفض، يؤدي لإيرادات ضريبية غير كافية، ومن ثم عجز كبير في الموازنة تقترض الحكومة لتمويله، بما يؤدي مع الوقت لتآكل قيمة العملة، سواءً كان هذا الاقتراض محلياً أو خارجياً. هذا ما نراه بوضوح في حالة السودان، كما رأيناه في دول أخرى باختلاف أسباب المشكلة وحدة أعراضها. 

>

المصدر: صندوق النقد الدولي

>

المصدر: صندوق النقد الدولي

وقد تعرض السودان خلال تاريخه الحديث لأحداث عنيفة استغرقت من عمره عقود، وأضاعت فرص كثيرة ووقت أكثر كان من الممكن استغلاله في توظيف الموارد و تحقيق التنمية. فبعد الحرب الأهلية الأولى والتي اندلعت في منتصف الخمسينات إلى مطلع السبعينات من القرن الماضي، سرعان ما دخلت السودان في حرب أهلية ثانية في أوائل الثمانينات، لم ينته صراعها رسمياً إلا مع عقد اتفاقية السلام في 2005 المسماة اتفاقية نيفاشا، والتي انفصل وفقاً لها جنوب السودان مكوناً دولته المستقلة في 2011. إلا أن متاعب السودان لم تنتهي عند هذا الحد، فالخلافات والنزاعات بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، لا تبدو خلاف عابر سهل تجاوزه. 

إلا أننا لسنا هنا لتقييم متغيرات سياسية، ولكننا حين نتحدث عن الاقتصاد لا يمكن القفز فوق المناخ السياسي للبلاد. ونحن هنا نحاول أن نلقي الضوء باختصار على أهم النقاط التي رسمت مسار الاقتصاد السوداني حتى الأزمة الحالية. 

كان الاقتصاد السوداني يعتمد بشكل أساسي منذ ما قبل الاستقلال في الخمسينات على قطاع الزراعة، وتحديداً زراعة القطن والتي اعتمد عليها الاحتلال البريطاني بكثافة كمدخلات لصناعته في أوروبا، وقد كان قطاع الزراعة يشكل تقريباً 40% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي خلال السبعينات وحتى منتصف الثمانينات، وأكثر من نصف صادراته.

وفي السبعينات، حاولت الحكومة العمل على برامج تنموية لتنويع الاقتصاد والرهان على قطاعي النقل والطاقة، بالذات مع ارتفاع أسعار النفط في مطلع السبعينات مع حرب 1973.  

ومع اختلاف المراحل التي مر بها السودان، عانى الاقتصاد السوداني من نقاط قصور ومحطات فارقة تسببت في مشكلات عديدة أهمها:

تشتت كبير في الرؤى الاقتصادية: تتأثر السياسات الاقتصادية بالإطار العام للسياسات العامة للدولة، وقد تأرجح السودان بين سياسات وأيديولوجيات بين الرأسمالية والاشتراكية والإسلامية، وقد أدى هذا التأرجح إلى وجود جذور عميقة لكل من تلك التوجهات المختلفة في ثقافة صناعة القرار الاقتصادي، وهو ما أدى إلى وجود خليط غير متجانس في السياسة الاقتصادية السودانية.  

معدلات نمو متواضعة خلال القرن العشرين، وتأثرات شديدة بمسار الحروب الأهلية: منذ الاستقلال في منتصف الخمسينات، عانى النمو الاقتصادي السوداني من التذبذب الشديد، والانكماشات المتتالية. حيث سجل الاقتصاد انكماش الناتج المحلي الإجمالي خلال فترات متعددة، بمتوسط 0.54-% خلال الفترة 1960 حتى 1974، وهي الفترة التي شهدت الحرب الأهلية الأولى. ثم تلتها فترة التقط فيها الاقتصاد السوداني أنفاسه، ليسجل متوسط 3.4% خلال 1975 – 1979، ثم الوقوع مجدداً في فخ الانكماش مع اندلاع الحرب الأهلية الثانية في 1983. 

مرور الاقتصاد بحقبات مختلفة من التضخم المرتفع: يمكن القول أن تاريخ الاقتصاد السوداني منذ الاستقلال هو عبارة عن حقبة مستمرة من التضخم المرتفع تخللها فترات استقرار قصيرة للأسعار، حيث كانت فترات الحروب الممتدة مع نمو منخفض وعجز متفاقم في الموازنة هي ظروف مثالية لانهيارات مستمرة في قيمة العملة. ربما لم تتح الظروف لاستقرار نسبي في الجنيه السوداني الا مع دخول النفط بقوة في تركيبة الصادرات السودانية، وذلك بالطبع قبل انفصال جنوب السودان وحرمان السودان من الإيرادات النفطية. 

البطالة.. مشكلة معقدة: تأثر التشغيل في الاقتصاد السوداني بشدة بسنوات متعاقبة من تعثر النمو والركود الاقتصادي، مع سنوات تطبيق سياسة الخصخصة، بالإضافة إلى سياسات غير موفقة في التعليم. وليس هذا فحسب، بل معاناة السودان من سياسات خارجية من دول العالم المختلفة التي أدت لشبه انعدام فرص العمل للسودانيين في المجتمع الدولي، وهذا التضرر قد طال جميع فئات العاملين من أول العمالة غير المدربة والبسيطة وحتى الأطباء والمهندسين. 

انفصال الجنوب .. وانقطاع شريان النفط: بشكل عام، اكتشاف النفط كمصدر للإيرادات أحياناً ما يكون أكبر نقمة تحل باقتصاد ما، إذ تجعله أكثر هشاشة بشكل كبير وأكثر عرضة للصدمات وتأثراُ بها. والأمر هنا لم يقتصر فقط على تبعات الأزمة المالية العالمية في 2008 على سبيل المثال. وإنما كان الأثر الأكبر مع انفصال جنوب السودان في 2011، ومع وجود معظم حقول النفط السودانية في الجنوب، خسر السودان إيراداته النفطية، والتي كانت تمثل أكثر من نصف الإيرادات العامة وحوالي 95% من الصادرات. وكان لذلك بالغ الأثر على معدلات النمو، والتي سرعان ما عكست الأحداث، حيث تحولت من نمو في الناتج المحلي الإجمالي قدره حوالي 3.9% في 2010 إلى انكماش يبلغ 3.2% في 2011، فضلاً عن ارتفاع التضخم المصحوب بارتفاع أسعار الطاقة، والدخول مجدداً في عقبة مطولة من الانكماش وتدهور النمو الاقتصادي وزيادة الأمور تعقيداً. 

ومع الصعوبات التي يوجهها الاقتصاد السوداني حالياً، إلا أننا نرى أن المشكلة ليست اقتصادية على الإطلاق. فالدائرة المغلقة للاقتصاد المتدهور لا يمكن كسرها إلا بحل جذورها السياسية بالأساس. فبينما قد يساعد قرار الولايات المتحدة بحذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وقد تساعد مساندة صندوق النقد الدولي على تعزيز فرص السودان في مبادرة الإعفاء من الديون للدول الأكثر فقراً، إلا أن تلك الآمال ستتبدد إذا لم تحقق السودان سريعاً القدر الكافي من الاستقرار السياسي الداخلي، وهو أمر من المستحيل القفز فوقه للحديث عن أية حلول اقتصادية، حيث لن تكون سوى مسكنات، وحتى قد تسبب مزيد من التعقيد في وضع معقد بما فيه الكفاية. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

لقراءة مقال سابق لنفس الكاتبة: لماذا خفضت موديز تصنيفها الائتماني لتونس؟ 

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط  عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.