يعتبر انهيار بنك سيليكون فالي، وهو أكبر انهيار مصرفي منذ الأزمة المالية الكبرى عام 2008، نوع من الاختبار للسياسيات المالية وتشديد القوانين التي تم اعتمادها لتلافي حدوث أزمة مماثلة، والتي كان يُفترض بها أن تجعل من المصارف أكثر أمانا، فماذا حدث؟  

في 10 مارس 2023، انهار بنك سيليكون فالي، الذي خدم صناعة التكنولوجيا لمدة ثلاثة عقود، بعد أن عانى من مشكلة سيولة جعلته عاجز عن تلبية طلبات المودعين. أعادت الازمة الأخيرة إلى الاذهان بدايات ازمة 2008 وانهيار بنك واشنطن ميتشوال Washington Mutual في ذلك الوقت. 

يدور النقاش اليوم حول ما إذا كانت حادثة بنك سيليكون فالي حدث فردي منعزل او فشلا على الصعيد التنظيمي للنظام المصرفي قابل للتمدد الامر الذي يمكن ان يهدد سلامة القطاع المصرفي العالمي.

بذور الازمة في زمن الوباء

أثناء وباء كورونا، كانت المصارف تجمع ودائع أكثر مما يمكنها من إقراضها للمقترضين، أي ان نمو الودائع في المصرف كان أكبر من الطلب على القروض حتى وصل الامر في عام 2021، إلى ان تضاعفت الودائع في بنك سيليكون فالي. 

تعين على هذه المصارف أن تفعل شيئا ما بكل هذه الأموال لذا، ما لم تتمكن من إقراضه، استثمرته في سندات خزانة أمريكية شديدة الأمان (كون المقترض هو الحكومة الأمريكية). المشكلة هي أن الزيادة السريعة في أسعار الفائدة في عامي 2022 و2023 تسببت في انخفاض قيمة هذه الأوراق المالية ومن سمات السندات والأوراق المالية المماثلة أنه عندما ترتفع العائدات أو أسعار الفائدة، تنخفض الأسعار، والعكس صحيح.

وبالتالي قال سيليكون فالي مؤخرا إنه تعرض لضربة كلفته 1.8 مليار دولار من بيع البعض من تلك الأوراق المالية وإنه لم يتمكن من زيادة رأس المال لتعويض الخسارة مع بدء أسهمه في الانخفاض. دفع ذلك الشركات الاستثمارية البارزة إلى تقديم المشورة للشركات التي تستثمر فيها لسحب أعمالها من المصرف. كان لهذا تأثير "كرة الثلج" الذي أدى إلى قيام عدد متزايد من المودعين بسحب أموالهم أيضا.

كانت خسائر الاستثمار، إلى جانب عمليات السحب، كبيرة جدا بحيث لم يكن أمام الهيئات الرقابية (regulators) خيار سوى التدخل لإغلاق البنك.

يبقى السؤال الأساسي: هل الودائع الآن آمنة؟

من منظور عملي، تدير مؤسسة التأمين الفيدرالية (FDIC) البنك الآن. من المعتاد أن تقوم FDIC بإغلاق البنك يوم الجمعة وإعادة فتح البنك يوم الاثنين. في هذه الحالة، أعلنت FDIC بالفعل أن البنك سيُعاد فتحه في 13 مارس باعتباره البنك الوطني للتأمين على الودائع في سانتا كلارا في ولاية كاليفورنيا.

في نهاية عام 2022، كان لدى البنك ودائع بقيمة 175.4 مليار دولار. ليس من الواضح-حتى الان- مقدار هذه الودائع المتبقية لدى البنك ومقدار تلك الودائع المؤمنة والآمنة بنسبة 100%. 

بالنسبة للمودعين الذين لديهم 250 ألف دولار أو أقل نقدا في المصرف المنهار، قالت FDIC إن العملاء سيكونون قادرين على الوصول إلى جميع أموالهم عند إعادة فتح البنك. 

بالنسبة لأولئك الذين لديهم ودائع غير مؤمنة - أي شيء يتجاوز حد 250 الف دولار – قام البنك المركزي بعدد من الإجراءات، التي تشمل ضمان جميع ودائع البنك، لتعزيز الثقة المتذبذبة في النظام المصرفي. تم الإعلان عنها الأحد من قبل وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع.

كما قال بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة بشكل منفصل إنهما سيستخدمان سلطات الإقراض في حالات الطوارئ لتوفير المزيد من الأموال لتلبية طلبات السحب المصرفي، وهو جهد إضافي لمنع التهافت على البنوك الأخرى.

ولكن، هل هناك أي خطر من أن المزيد من البنوك قد تنهار؟

في نهاية عام 2022، كان مصرف سيليكون فالي هو البنك السادس عشر في الولايات المتحدة بأصول تبلغ 209 مليارات دولار. هذا يمثل 0.91% فقط من جميع الأصول المصرفية في الولايات المتحدة. وهناك خطر ضئيل في أن يمتد فشل أو انهيار البنك (bank failure) إلى البنوك الأخرى.

إلا إن انهيار مصرف سيليكون فالي يسلط الضوء على المخاطر التي يواجهها العديد من البنوك في محافظهم الاستثمارية. إذا استمرت أسعار الفائدة في الارتفاع، وكان الاحتياطي الفيدرالي قد أشار إلى أنها سترتفع، فستستمر قيمة المحافظ الاستثمارية للبنوك في جميع أنحاء الولايات المتحدة في الانخفاض.

في حين أن هذه الخسائر هي فقط على الورق - مما يعني أنها لم تتحقق حتى يتم بيع الأصول - إلا أنها لا تزال قادرة على زيادة المخاطر الإجمالية للبنك، ويختلف مقدار ارتفاع المخاطر من بنك لآخر.

يعتبر محللون اقتصاديون أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، ويلقون باللوم على نظام الاحتياطي الجزئي. الاحتياطي الجزئي هو نظام يسمح للبنوك بالاحتفاظ فقط بجزء معين من ودائع العملاء في متناول اليد، ويسمح للبنوك بحرية التصرف في ودائع العملاء من أجل تحقيق ربح. على سبيل المثال، يمكنها إقراض المال أو استثماره في الأصول. 

يتحقق النمو الاقتصادي من الإقراض. عندما تقرض البنوك الأموال بسهولة أكبر، فهذا يعني أن الشركات قادرة على الاستثمار في العمليات والتوظيف. في 15 مارس 2020، أعلن مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيدرالي عن تغيير في متطلبات الاحتياطي.

في 26 مارس 2020، تم تغيير النظام المصرفي الأمريكي إلى "بدون احتياطي مصرفي" أو ببساطة، يمكن للبنوك أن تفعل ما يحلو لها في ودائع العملاء.

يقول هؤلاء المحللون الاقتصاديون إن أزمات المصارف سوف تستمر في الحدوث كل فترة حتى يتم التخلص من هذا النظام. يدعو هؤلاء الى ان يلتزم المصرف بعدم التصرف بالحسابات الجارية وان تكون نسبة الاحتياطي 100% لهذه الحسابات أي ان المصرف لا يتمكن من استثمارها، وبالتالي تكون دائما جاهزة عند طلب المودع. المصرف بهذه الحالة يكون "خزنة" لحفظ هذه الأموال ويمكن ان يتقاضى عمولة على خدماته.

أما إذا أراد المصرف الاستثمار في القروض والأصول المالية الأخرى بغية تحقيق أرباح، فهذه العمليات يجب تمويلها من الحسابات الاستثمارية في المصارف التي يتخلى فيها المودع عن السيولة المصرفية وعن إمكانية التصرف بأمواله لفترة معينة حتى يتمكن المصرف من استثمارها وتحقيق الأرباح منها. 

عندها فقط يمكن القضاء على الازمات المالية النظامية (systemic) والمتكررة كل فترة وأخرى.

 

(إعداد: محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)  
 
#مقالرأي