*تم تعديل كلمة أفقي في آخر المقال لرأسي

تعاني مصر كغيرها من البلدان متوسطة الدخل بمختلف شرائحها من عجز مزمن في ميزانها التجاري، بمعنى أن وارداتها عادة ما تفوق صادراتها بنسبة كبيرة، وبما إن الواردات يتم تمويلها بالعملة الصعبة (غالبا الدولار الأمريكي)، فإن عجز الميزان التجاري كثيرا ما يترجم إلى ضغط مزمن على العملات الوطنية وما يؤدي إليه من موجات تضخمية علاوة على فصول متكررة من نقص العملة الصعبة التي تؤدي إلى ركود في القطاعات الإنتاجية. وعلى الرغم من أن مصر لا تمثل استثناء لهذا إلا أن هذا المقال سيركز عليها كدراسة حالة.

مشكلة السلع الوسيطة

مثلت مدخلات الإنتاج نحو ثلثي ما استوردته مصر في الفترة بين 2005 و 2020، موزعة ما بين الخامات الضروري استيرادها لعدم توافرها محليا، والسلع الرأسمالية التي عادة ما تحتوي على مكون تكنولوجي مرتفع كالأجهزة والآلات، والسلع الوسيطة.

إن اللافت للنظر هو الوزن النسبي الكبير للسلع الوسيطة، وهي السلع نصف المصنعة التي تدخل في إنتاج سلع وخدمات أخرى، وتصبح جزءا من المنتج النهائي – خلافا للسلع الرأسمالية-.

مثلت السلع الوسيطة 31% من فاتورة الواردات الإجمالية في 2019/2020، القسم الأكبر منها مركّبات عضوية وغير عضوية كيماوية بواقع ثلث السلع الوسيطة المستوردة، والتي تدخل في أغلب المنتجات الصناعية والخدمات المتصلة بها. ولعل ما يميز السلع الوسيطة أن بعضها لا يتطلب مكونا تكنولوجيا مرتفعا ما يتيح الفرصة لإنتاجها محليا، خاصة إذا توافرت المواد الخام اللازمة لذلك كحال الغاز الطبيعي مع الكيماويات.

يفاقم من عجز الميزان التجاري المزمن في الحالة المصرية أن قطاع الصناعات التحويلية يتوجه في أغلبه للسوق المحلية عوضا عن التصدير ما يعني أن العديد من هذه الصناعات يعتمد على استيراد مدخلات بالعملة الصعبة من أجل إنتاج سلع أو خدمات للسوق المحلية لا تولد دولارات بدورها. ويخلق هذا درجة كبيرة من الاعتماد في توليد النمو وخلق الوظائف على توفر العملة الصعبة ما يترجم إلى ضعف هيكلي في الاقتصاد إذ يجعله عرضة بشكل مستمر لأزمات نقص العملة الصعبة وما يتبعها بشكل أوتوماتيكي من ركود وتضخم في آن واحد.

تعميق الصناعة؟

يمثل المخرج من هذه المعضلة تبني إستراتيجية طويلة الأجل من قبل أجهزة الدولة بالشراكة مع القطاع الخاص، من أجل تعميق الصناعة بما يسمح بإنتاج السلع الوسيطة التي تتوفر لها مواد خام محليا ولا تتطلب محتوى تكنولوجي أو مهاري معقد لإنتاجها.

 بالطبع قد يسارع البعض إلى ربط هذا الاقتراح بسياسات إحلال محل الواردات التي شاع تبنيها في العالم الثالث من أربعينات القرن العشرين حتى السبعينات، وانتهت بشكل عام – وتقريبا بلا استثناءات تذكر- إلى الفشل بما تسبب في أزمات مديونية طائلة كانت هي المسوغ لتبني إجراءات لتحرير هذه الاقتصادات وتبني استراتيجيات داعمة للتصدير منذ الثمانينات.

 وينطبق هذا على مصر تماما، فمعلوم لدى المؤرخين الاقتصاديين أن إستراتيجية إحلال الواردات التي تم تبنيها مع الخطة الخمسية الأولى في 1960 قد باءت بالفشل لأنها لم تحقق مطلب تعميق الصناعة بمعنى أنها نجحت في إحلال محل الواردات من السلع الاستهلاكية ثم فشلت في إيجاد قاعدة تصنيعية للسلع الرأسمالية، فظلت تعتمد على استيرادها من الخارج ما فاقم من عجز ميزان التجارة بشكل يتناقض وهدفها المبدئي. ولم يكن الأمر حكرا على مصر بل تكرر في البرازيل والمكسيك ويوغوسلافيا والهند والأرجنتين.

واعترافا وتسليما بنواقص ونواقض نماذج إحلال محل الواردات، فإن المطروح هنا هو تبني إستراتيجية لتعميق الصناعة تتمتع بدرجة من المرونة والذكاء في التخطيط والتنفيذ، وأن يكون نصب عين واضعيها في الدولة ضرب عصفورين بحجر: زيادة رقعة الأنشطة الصناعية ذات القيمة المضافة الأعلى بإنتاج سلع وسيطة على نحو تنافسي، وفي الوقت ذاته تخفيف الضغوط المالية على العملة الصعبة، وبالتالي تقديم حل هيكلي وطويل الأجل لمشكلة عجز الموازين التجارية والجارية والمدفوعات.

هل هذا ممكن في السياق الحالي؟ إن الإجابة المبدئية هي نعم -علما بأن المقال لا يقدم حلا نهائيا بقدر ما يفتح نقاشا للقائمين على سياسات التصنيع والتجارة والمنتجين في القطاع الخاص الذي يهيمن على غالب السلع التحويلية-. ومن باب تقديم خطوط عريضة لسياسة ذكية ومرنة لتعميق الصناعة، يمكن الحديث عن أربعة محاور مبدئية:

أولا: تعميق الصناعة على نحو تنافسي بمعنى أن تكون جهود التعميق بإنتاج سلع وسيطة في حضور منافسة من السلع المستوردة داخل السوق المحلية، وهو أمر متحقق في ضوء التزامات مصر تحت مظلة منظمة التجارة العالمية وعشرات اتفاقات التجارة الحرة التي تربط مصر باقتصادات العالم المتنوعة.

ويعني هذا أن جهود تعميق التصنيع سوف تحدث على نحو تنافسي، سواء بالتعاون مع منشآت صناعية كبيرة من خلال إضافة خطوط إنتاج داخلها -أو ما يعرف بالاندماج الرأسي- وعبر سياسات قطاعية بين شركات مختلفة ترتبط ببعضها البعض من خلال اتفاقات وشبكات توريد.

وهناك بالفعل حماية مؤقتة وحوافز متاحة للصناعات المحلية متمثلة في الانخفاضات الكبيرة والمتتالية للجنيه المصري، وإجراءات خفض الواردات من أجل الحفاظ على الاحتياطيات وقيمة العملة المحلية ما يتيح بالفعل ما يشبه فترات السماح لتدخلات مكثفة من الدولة بالتعاون مع القطاع الخاص لتعميق الصناعة على نحو تنافسي.

ثانيا: يضيف هذا فعليا مدى زمني مؤقت لجهود تعميق الصناعة بهدف الاستثمار ماديا وبشريا وتكنولوجيا لفترات بما يتيح التنافس مع السلع الوسيطة المستوردة في مراحل لاحقة في المدى المتوسط. وهو ما جرى على تسميته بشروط "غروب الشمس" Sunset clauses أي أن يعرف المنتجون المنخرطون في محاولات تعميق الصناعة أن التزام الدولة بمساعدتهم مرهون بسقف زمني. ويضاف إلى هذا وذاك، أن شكل دعم الدولة لتعميق الصناعة تحت التزامات مصر الدولية سيكون في مجالات كالبحث العلمي ونقل التكنولوجيا، وهو قيد مفيد إن جاز التعبير.

ثالثا: إن تعميق الصناعة على هذه الشاكلة ليس بالضرورة مناهضا للتصدير لأن بناء قدرات محلية لتصنيع السلع الوسيطة في حضور منافسة من سلع مستوردة هو أمر يحقق بناء قاعدة صناعية محلية يمكن استخدامها بالتزامن للتصدير في الأسواق الأجنبية. وهو ما قد يسمح لاحقا بانطلاقهم إلى التصدير أو على الأقل الحفاظ على حصصهم في السوق المحلية في مواجهة السلع المستوردة بما يحقق خفضا في الاعتماد على الواردات من دون الآثار الجانبية المعتادة من ركود تضخمي.

رابعا وأخيرا، فإن استراتيجية تعميق الصناعة هي قطاعية بامتياز بمعنى أنها يجب أن تكون مرنة تستهدف قطاعات دون أخرى، وصناعات داخل القطاعات دون أخرى. ويمكن أن تكون نقطة البدء هي السلع الوسيطة التي تحظى بوفرة في موادها الخام –وهنا العين على البتروكيماويات المستوردة في ضوء اكتشافات الغاز الطبيعي الضخمة مؤخرا-، والسلع الوسيطة التي لا تتطلب محتوى مهاريا أو تكنولوجيا مرتفعا.

(إعداد: عمرو عادلي، محلل اقتصادي بزاوية عربي وأستاذ مساعد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بقسم العلوم السياسية)

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية سجل هنا

#مقالرأي