لم يكد العالم يتدارك الآثار المدمرة لجائحة كوفيد-19 على الكثير من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية، حتى جاءت رياح الأحداث العالمية وتحديدا الحرب في أوكرانيا بما لا تشتهي أي سفينة في أي بحر من بحار العالم.
 
 فخلال 2019-2020، تصاعدت التحديات التي تتعلق بقضايا الأمن الغذائي وتوافر القدر المناسب من التغذية في العديد من الدول، وتحديدا تلك المستوردة للغذاء، ثم جاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتزيد الأمور تعقيدا، وهما من لهما أهمية كبيرة في الصادرات الغذائية والزراعية على المستوى العالمي، مما شكل مزيدا من التهديد بإطلاق شبح الجوع من مكمنه في مجتمعات عدة واضعا الأمن الغذائي فيها على المحك. 

الأمن الغذائي.. ما هو؟ 

ويعني مفهوم الأمن الغذائي، حسب تعريف منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) "توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة". وقد تختلف التعريفات لمفهوم الأمن الغذائي من مؤسسة لأخرى أو من وقت لآخر، لكنها مجرد اختلافات تقنية، لكنها كلها تدور حول المعنى نفسه: قدرة الإنسان في الحصول على الغذاء المناسب والذي يضمن له القدر المطلوب من الحفاظ على حياته، كرامته، وبنيته الصحية التي تكفل بقائه منتجا.
 
ولا يجب هنا التعامل مع الأمن الغذائي على أنه الاكتفاء الذاتي، أو ما يطلق عليه الأمن الغذائي المطلق، حيث تنتج الدولة كامل احتياجاتها من السلع الغذائية المختلفة، لأنه تصور غير واقعي ولا يمكن تطبيقه فعليا على الأرض. وإنما قد يتحقق الأمن الغذائي بتوفر سبل تأمين الاحتياجات الغذائية بالتعاون مع دول أخرى بشكل سلس وغير مهدد، وقد يحدث عن طريق تخصص الدول المختلفة والتكامل فيما بينها بما لذلك من فوائد اقتصادية معروفة.  
 
مخاطر متجددة

وقد شكلت الحرب بين روسيا وأوكرانيا مخاطر كثيرة على صعيد الأمن الغذائي العالمي. فكلا البلدين مصدر هام للحاصلات الزراعية وكذلك الأسمدة والمخصبات، وللدولتين مكان هام في الحصة السوقية العالمية لتصدير القمح، الشعير، الذرة، والزيوت النباتية، وهو ما يفسر ارتفاع أسعار السلع الغذائية وتصاعد الحديث عن أزمة عالمية فيما يخص الأمن الغذائي، خاصة في الدول النامية والأقل دخلا والتي عانت الأمرين بالفعل منذ اندلاع الحرب في الأسبوع الأخير من فبراير الماضي. 

وهو ما دفع منظمة الغذاء العالمية للتحذير من إتساع الفجوة بين العرض والطلب على الغذاء والأعلاف بما يتراوح من 8% حتى 22% عن مستوياتها قبل الحرب، والتي كانت مرتفعة بالفعل، والتي كانت تقدر أنه خلال 2022 سيعاني 181 مليون فرد في 41 دولة حول العالم من أزمة غذاء أو تفاقم في تراجع الأمن الغذائي، وهي التقديرات التي سبقت الحرب في أوكرانيا.

ومع أخذ الحرب في الحسبان، ترى منظمة الغذاء أن من 8 إلى 13 مليون فرد آخرين سيعانون من سوء تغذية خلال 2022/2023، وهو ما يهدد تحديدا مناطق في آسيا، وإفريقيا. 

وقد أثارت تلك الحرب الكثير من التساؤلات حول الأمن الغذائي في الدول العربية والشرق الأوسط.

ففور اندلاعها، أصبح من الواضح أن دول مثل مصر، لبنان، ليبيا، وتركيا وغيرها من الدول ستتضرر بشكل كبير فيما يتعلق بتوافر السلع الغذائية وأسعارها.

فوفقا لتقرير منظمة الغذاء العالمية، بين 70 و80% من استهلاك مصر من القمح يعتمد على الاستيراد، أكثر من نصفهم من روسيا، وتقريباً مثلها من أوكرانيا.
 
 كذلك فإن لبنان، تركيا، السعودية، وعمان تستورد كمية كبيرة من القمح التي تحتاجها لاستهلاكها من الدولتين المتحاربتين. حيث أعاقت الحرب الصادرات الأوكرانية بسبب المعوقات اللوجستية وعدم إمكانية استخدام موانئ البحر الأسود مع محدودية الوسائل البديلة للنقل، الأمر الذي له أعظم الأثر على صادرات القمح الأوكرانية. وهو ما دفع وزير المالية السعودي محمد الجدعان للحديث عن أزمة غذاء حقيقية "لم يقدر المجتمع الدولي حجمها الحقيقي بعد"، كما أشار الوزير على هامش منتدى دافوس في مايو الماضي. 
 
جهود ومحاولات
 
إلا أن الأمر لا يتعلق بالحرب فقط، بالرغم من أنها أعادت الضوء عليه كقضية ملحة، فقضية الأمن الغذائي لها امتداد أطول أمدا، اختلفت الدول في ما قدمته من مجهودات في شأنها.

فعلى سبيل المثال، فقد أطلقت حكومة الإمارات الاستراتيجية الوطنية للأمن الغذائي، بالإضافة لتعيين أول وزيرة للأمن الغذائي والمائي في العالم.

وتهدف الاستراتيجية لتطوير منظومة إنتاج غذائي مستدام، تسهيل تجارة الغذاء، تنويع مصادر الاستيراد، وغيرها من المستهدفات، والتي تضمنت أن تكون الإمارات الأفضل عالميا في مؤشر الأمن الغذائي العالمي بحلول عام 2051، وضمن أفضل 10 دول في عام 2021، إلا أنه يبدو أن تأثيرات جائحة كوفيد قد سببت رياح معاكسة على هذا النحو حيث احتلت الإمارات المركز 35 في عام 2021، إلا أنه يظل أفضل عن العام السابق له. 

كما قامت مصر ببعض الجهود لتحسين الأمن الغذائي. حيث أن رؤية مصر 2030 تستهدف القضاء على الجوع وتأمين قدرة الجميع على الوصول للغذاء المناسب، وتستهدف كذلك مضاعفة الإنتاجية الزراعية وكذلك مضاعفة دخول المشروعات الصغيرة في مجال إنتاج الغذاء، وبالذات تلك المتعلقة بالمرأة المعيلة، أو أسر المزارعين. من ناحية أخرى، يستهدف مشروع المليون ونصف فدان زيادة رقعة الأرض الزراعية، كما قامت الحكومة المصرية بتنفيذ مشروعات زيادة القدرات الاستيعابية لتخزين القمح من خلال تدشين صوامع بنظلم تكنولوجي يحسن منظومة التخزين، وذلك بتمويل جزئي من شركاء التنمية. 

إلا أن الأمر لا يزال يحتاج الكثير... 

وهو ما سنتطرق له في المقال القادم. 
 
(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)
 
#مقالرأي