منذ بدء العمل بنظام الكوريدور في عام 2005 وحتى الآن، لم تتجاوز نسبة التشديد في اجتماع واحد 300 نقطة أساس. ولكن المعطيات الراهنة والتي خرجت عن نطاق المألوف قد تفرض على المركزي المصري الخروج عن نطاق المألوف أيضا. فالتشديد بنسبة لا تقل عن 500 نقطة أساس أصبح ضروريا للسيطرة على معدلات وتوقعات التضخم في أسرع وقت ممكن.

فالمعطيات الراهنة كالآتي:

أولا، بعد فترة ثبات نسبي خلال التسعة أشهر الأولى من العام الحالي عند مستوى الـ 40 جنيه للدولار، تراجع سعر صرف الجنيه بحوالي 10% في السوق الموازي ليتراوح ما بين الـ 45 و47 جنيه مقابل الدولار خلال النصف الثاني من شهر أكتوبر. ولا شك أن التراجع الحاد سينعكس على أسعار بيع السلع والخدمات بأكثر من هذه النسبة لاستباق المصنعين والتجار تراجع آخر خلال الفترة المقبلة. وظاهرة التسعير الاستباقي باتت جلية في قطاع السلع المعمرة مثل السيارات والعقارات.

ثانيا، أظهرت البيانات الأولية للمركزي المصري استمرار ارتفاع ما يعرف بالقاعدة النقدية (M0) بوتيرة مرتفعة. والـ M0 تمثل السيولة المصدرة من قبل المركزي في صورة بنكنوت وفي صورة ودائع جارية للبنوك لدى المركزي. والزخم في معدل نمو القاعدة النقدية يؤدي في غالبية الأحيان إلى نمو مفرط في السيولة المحلية بمفهومها الشامل من خلال عمليات الإقراض التي تقوم بها البنوك التجارية. ففي آخر سبتمبر 2023، بلغ معدل النمو السنوي في القاعدة النقدية 32% وهو يفوق كثيرا ما هو متوافق مع استقرار الأسعار.

ثالثا، من الواضح أن الأيام القليلة الماضية شهدت انفلات حاد في توقعات التضخم، هذا الانفلات لا يمكن قياسه بدقة و لكنه يتجلى في صورة ارتفاع حاد في الطلب على أدوات التحوط. فالبيانات الواردة من سوق الصرف الموازي، والقطاع العقاري، وسوق الذهب، ومن البورصة المصرية تشير إلى ارتفاع حاد في الطلب على الأصول التي تحتفظ بقيمتها خلال فترات التضخم الحاد. فعلى سبيل المثال، ارتفع مؤشر البورصة المصرية خلال آخر أسبوعين من شهر أكتوبر بمعدل 16.1% وبقيم تداول تاريخية تخطت الـ 5 مليار جنيه يوميا.
 
رابعا، يأتي اجتماع المركزي هذا الأسبوع بعد خفض التصنيف الائتماني للديون السيادية بالعملتين المحلية والأجنبية من قبل وكالتي Moody's و Standard and Poor's إلى Caa1 و B- على التوالي. وكان من أبرز ملاحظات الوكالتين هو تفاقم معدلات التضخم بالإضافة إلى الضغوط الناتجة عن جدول سداد الديون الخارجية المزدحم في عامي 2024 و2025.

خامسا، فالضغوط الداخلية والإقليمية يفاقم آثرها الضغوط الخارجية والممثلة في ارتفاع العائد على السندات الأمريكية استحقاق 10 سنوات إلى ما يقارب الـ 5% وهو أعلى عائد منذ حوالي 16 عام. ورغم أن هذا الارتفاع الحاد يضع سقف لأسعار السلع العالمية، إلا أنه يفاقم من صعوبة إصدار سندات دولية من قبل الأسواق الناشئة وخاصة تلك التي تعاني من تصنيف ائتماني منخفض مثل مصر. وبالتالي، يكون البديل للتمويل الخارجي هو كبح جماح الطلب المحلي لتخفيض فاتورة الاستيراد وبالتالي خفض قيمة الفجوة التمويلية ككل.

وأخيرا، فإن العائد الحقيقي على الاستثمار في أدوات سوق النقد أو الدخل الثابت في مصر حاليا يقارب السالب 5% إذا ما افترضنا أن معدل التضخم الأساسي سيتراجع إلى مستوى الـ 25% خلال عام من قرابة الـ 40% حاليا. ولابد من الإشارة إلى أن معدل التضخم الأساسي يتأثر سلبا بتعديل أسعار السلع المحددة إداريا مثل الوقود والكهرباء وهو ما نتوقع حدوثه خلال الربع الأول من عام 2024. وبالتالي، قد يكون تباطؤ معدل التضخم إلى 25% تحدي في حد ذاته إذا لم يقدم المركزي على تشديد حاد واستباقي.

وبالرغم من أن كل المعطيات تشير إلى الحاجة الماسة لتشديد غير مسبوق يقارب الـ 5%، إلا أن التوازن الدقيق بين مستهدف التضخم لدى المركزي وبين تكلفة التمويل التي تتحملها وزارة المالية ستظل الحاجز الزجاجي ما بين يجب فعله وما يتم فعله في أرض الواقع. وبالتالي، قد يكتفي المركزي بالتشديد بواقع 300 نقطة أساس هذا الأسبوع حتى إعادة تقييم الموقف في اجتماع 21 ديسمبر 2023.

(إعداد: هاني جنينة، محلل اقتصادي ومحاضر بكلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة) 

#مقالرأي

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)