تظل العقوبات الاقتصادية التي تحظى بتأييد دولي موسع أكثر صعوبة في صياغتها وتطبيقها لاحتياجها لقدر كاف من التنسيق بين أطراف متعددة ودول قد تتباين في أهدافها وأولوياتها، وهو أمر ليس بالسهل. 

فوجود تأييد واسع من عدمه لتطبيق عقوبات اقتصادية على دولة بعينها يتوقف على عوامل عدة منها مدى انخراط الأطراف المختلفة تجارياً مع تلك الدولة  - الدولة الهدف - وأولوياتها السياسية، ومدى توافر بدائل وموارد أو مساحة مالية واقتصادية كافية لتعويض أي خسائر قد تنجم عن تطبيق العقوبات الاقتصادية والتي قد يكون لها أثر على الدول المطبقة للعقوبات وليس فقط الخاضعة لها. ولذا، من المعتاد ألا تجتمع أطراف دولية عدة على تطبيق عقوبات اقتصادية على دولة ما، إلا إن كان هناك أمر جلل يتطلب ذلك، وهو ما ارتآه المجتمع الدولي في غزو الكويت في 1990 أو في حرب روسيا على أوكرانيا في عامنا الحالي.

والغريب هنا، أنه في بعض الأحيان، ولتحقيق اتفاق واسع على تطبيق عقوبات اقتصادية على الدولة المستهدفة، قد تقوم الدولة المبادرة بفرض عقوبات اقتصادية على أطراف أخرى بدورها في حال لم تنضم للأولى في منظومة العقوبات على الدولة المستهدفة بشكل أساسي، أي ببساطة، من ليس معنا في نفس الخندق نعتبره عدو بالتبعية.

 فالولايات المتحدة لديها ما يسمى بـ "العقوبات الثانوية"، وهي استثناء الكيانات الاقتصادية لدى دولة أخرى – باعتبارها طرف ثالث يتعاون مع الدولة المستهدفة بالأساس – من التعاملات التجارية الأمريكية، وذلك في محاولة لحشد دعم أوسع يعزز من تأثير عقوباتها الخاصة، إلا أنه يظل أمر بالغ التكلفة على السياسة الخارجية الأمريكية ومصالحها وتواجدها والنظرة لأمريكا وشعبها، بالإضافة لتكلفة كبيرة للفرص الضائعة على شركات الولايات المتحدة التي تفرض العديد من العقوبات الاقتصادية بدرجات مختلفة على دول عدة، ولعل أحدث مثال يمكن ضربه حول العقوبات الثانوية هو ما أثير مؤخراً حول ضغوط من بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، لتفعيل عقوبات ثانوية على شركات أجنبية تقوم بتسهيل تداول النفط الروسي أو حتى على دول تقوم بزيادة استيرادها له، وذلك لمحاولة لتحجيم قدرة بوتين على تمويل حربه في أوكرانيا وزيادة حدة التأثير الاقتصادي على روسيا.

تعليم أطفال العراق كمثال

لو سمحنا لأنفسنا بالابتعاد قليلاً عن المصطلحات الدبلوماسية والعلمية الرصينة، فإنه يمكننا أن ننظر لمبدأ العقوبات الاقتصادية – ذلك المصطلح الجاف الذي يفوح بأرقام ومنحنيات لمتغيرات اقتصادية تتغير صعوداً وهبوطاً – بطريقة أكثر قرباً للإنسان وحياته. 

فاللجوء لأدوات الحصار وتحجيم التجارة الخارجية والقدرات الاقتصادية لدولة ما هو في أساسه استخدام حياة الناس ومستقبلهم ومواردهم للضغط على الأنظمة لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة. فالتأثير سلباً على اقتصاد دولة ما يعني بالتبعية التأُثير على قدرتها على توفير البنية التحتية والخدمات التي تمس الحقوق الإنسانية بشكل مباشر، كالخدمات الصحية والماء وشبكات الأمن الغذائي، وكلها ترتبط بوجود الإنسان وحياته وبقائه. 

ولأن كان ارتفاع وفيات الأطفال دون الخامسة في العراق في فترة ما بعد حرب الخليج الثانية محل خلاف  في توثيقه ومدى مصداقيته، حيث تزعم بعض التقارير كذب الاستطلاعات التي نشرتها حكومة صدام حسين والتي استخدمتها منظمة اليونيسيف في تقريرها في 1999 عن أثر العقوبات على الأطفال في العراق، وأنها مجرد أكاذيب لمهاجمة العقوبات المفروضة على العراق أثناء التسعينات.

إلا أن البيانات الموثقة لدى المؤسسات الدولية نفسها كالبنك الدولي، تشير مثلا لتراجع عدد التلاميذ المقيدين في التعليم الابتدائي من 3.3 مليون تلميذ في 1991، إلى 2.8 مليون تلميذ في 1991، بينما تراجع نسبة استكمال التعليم الابتدائي من إجمالي الأطفال في الشريحة السنية لهذه المرحلة من 61% في 1988 إلى 57% في 1999، كما تشير اليونيسيف نفسها في تقرير حديث أن العقوبات على العراق قد ساعدت على انهيار النظام التعليمي فيه.

والعراق ليس المثال الوحيد، في كوبا، أكدت اليونيسيف كذلك أن الحظر الأمريكي على كوبا أدى لصعوبات في توفير مستلزمات قطاع التعليم وصيانة وإصلاح بنيته التحتية، بما يؤثر بشكل مباشر على كفاءته.

عمر ووزن الإنسان

تشير المنظمة كذلك أن دراسة أجرتها على 33 دولة في الفترة بين 1914 و2006 أكدت أن الأطفال الذين ولدوا في ظل العقوبات كانوا بأوزان أقل من المتوسط، ومن ناحية أخرى ينخفض متوسط العمر المتوقع مع الدول المستهدفة بالعقوبات لسنوات، حيث تؤدي كل سنة إضافية تقضيها الشعوب تحت العقوبات إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع بحوالي 0.2 إلى 0.3 سنة. أي أن الأمر لا يتعلق بخدمات الصحة والتعليم فقط، بل بحياة الإنسان ذاتها.

وهو المعنى الذي أكد عليه مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان OHCHR في مارس الماضي في بيانه الذي يحث الدول على مراعاة الاعتبار الإنساني في فرض العقوبات، الذي ضرب مثال أن حظر الوقود مثلا أو تقييد تداوله في الدولة المستهدفة قد يؤدي لفشل الدولة في تشغيل محطات ضخ المياه للمنازل، تشغيل المدارس والمستشفيات بما يعنيه ذلك لحياة الناس اليومية. 

إلا أننا نرى أن مثل تلك التنبيهات هي أبعد ما تكون عن الواقعية للأسف، لأن فلسفة العقوبات الاقتصادية ذاتها تقوم – ولو بشكل غير معلن – على الضغط على الأنظمة عن طريق الحلقة الأضعف، وهي الشعوب، التي تنال العصيّ واحدة تلو الأخرى، دون أمل في الحصول على جزرة واحدة من ثمار الحروب والصراعات إن كان لها ثمار. 

للمزيد: العقوبات الاقتصادية.. عصا بدون جزرة..
 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)

#مقالرأي

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)