لطالما كان اللجوء للعقوبات الاقتصادية أو التلويح بها جزء من أدوات السياسات الخارجية، في إطار محاولة الدول للتأثير خارجياً بما يتماشى مع مصالحها وأهداف أمنها القومي. والأمر ليس مستحدثاً، بل يعود لأزمنة سابقة بعيدة، حتى أن بعض الدراسات تذكر عقوبات فرضتها الإمبراطورية الأثينية، على مدينة ميجارا التاريخية عام 432 قبل الميلاد، بحظر استيراد بضائعهم ومنعهم من التعامل مع موانئ الإمبراطورية إبان اندلاع الحرب المسماة بالحرب البيلوبونيسية. 

وبعيداً عن الحذلقة التاريخية، فإن العقوبات الاقتصادية ظلت أداةً واسعة الاستخدام ولكنها ظلت كذلك محط تساؤل فيما يتعلق بفاعليتها وقدرتها على تحقيق الأهداف المرجوة منها، ومدى اتساع دائرة خسائرها التي قد تشمل – أحياناً – الدول التي تطبقها ذاتها. وخاصةً أن العقوبات الاقتصادية كمبدأ يهدف بالأساس لتحديد القدرات التجارية للدولة المستهدفة، ما بين حظر أو مقاطعة أو حصار اقتصادي، يتعارض في جوهره مع فكرة حرية التجارة وإلغاء القيود المختلفة التي تحد من رفاهية المجتمعات واستغلال الميزة التنافسية والنسبية، وهي مبادئ أساسية لقيام بعض المنظمات الكبرى كمنظمة التجارة العالمية WTO على سبيل المثال. 

عقوبات روسيا

وقد جاءت العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على روسيا خلال الأشهر الماضية إبان حرب الأخيرة على أوكرانيا، لتثير مجدداً بعض الأسئلة حول العقوبات الاقتصادية كأداة للسياسة الخارجية. إلا أننا لسنا حالياً بصدد تقييم آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، لأننا نرى الأمر سابقاً لأوانه من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن المعلومات والآراء المتداولة حالياً تخلو بشكل كبير من الموضوعية والتجرد، وإنما هي آراء ينشرها خصمان، كل منهما ينتقي من المؤشرات ما يؤيد موقفه خلال الأزمة الحالية. 
 
أداة فعالة...؟ 

دعونا أولاً نوضح أن ما نعنيه بـ"فعالة" هنا هو مدى قدرة العقوبات الاقتصادية على إحداث تغير في سياسات الدولة المستهدفة حيال قضية ما موضع خلاف، ولا نعني بفعاليتها مدى إحداث ضرر اقتصادي أو تأثير على مؤشرات الدولة الهدف – إن صح التعبير – من عدمه. 

فمن البديهي أن تحدث العقوبات نوع من الضرر للأوضاع الاقتصادية للدولة المستهدفة، لكنها لا تقود بالضرورة "للإذعان" المطلوب. ومن المثير أن نقول أن العقوبات الاقتصادية عادة ما تخفق في تحقيق أهدافها من تغيير لسياسة الخصم أو الطرف الآخر، وهو ما تشير إليه العديد من الدراسات والمقالات.  

فمثلاً، تشير دراسة نشرت في The Journal of Politics في 2004، أن العقوبات الاقتصادية التي ستنجح في تغيير موقف الخصم حيال قضية ما، ستؤتي ثمارها في مرحلة التلويح بها أو التهديد بتطبيقها، دون الحاجة لتطبيقها فعلياً، بينما طالما اضطر الطرف المُهدِّد لتنفيذ العقوبات فعلياً، فعلى الأغلب لن تنجح تلك العقوبات في تغيير سلوك الخصم على النحو الذي يرجوه الأول. 
 
فعلى سبيل المثال، لم تنجح العقوبات الاقتصادية الخانقة التي أقرتها الأمم المتحدة على العراق في أغسطس 1990 نتيجة لغزو صدام حسين للكويت في محاولة لإجباره على الانسحاب، وذلك رغم التأييد الدولي لتلك العقوبات واستمرارها لأشهر، والباقي معروف للجميع. كما لم تحقق العقوبات الاقتصادية والحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا في أواخر الخمسينات من القرن الماضي في تغيير نهج فيدل كاسترو منذ أزمات تأميم الأخير لشركات النفط الأمريكية وكذلك أزمة الصواريخ السوفيتية في مطلع الستينات، ولم تنجح في إزاحته عن السلطة رغم عقوبات اقتصادية مستمرة ورغم القرب الجغرافي بين الولايات المتحدة وكوبا وكون الأخيرة جزيرة يمكن حصارها بسهولة نسبياً. 

"من ليس معنا فهو علينا... لا خيار آخر"... 

ويتأثر احتمال نجاح العقوبات الاقتصادية بمدى شمول دائرة مطبقها من الدول والمنظمات المختلفة على "الدولة الهدف". وإن كانت فعالية العقوبات الاقتصادية محل تساؤل، كما أشرنا، حتى تلك التي يتم تطبيقها بواسطة أطراف متعددة Multilateral Sanctions، فبالتأكيد تعتبر العقوبات الفردية Unilateral Sanctions أقل حظاً في إحداث تغيير يذكر.  

وللحديث بقية في جزء ثاني من المقال.

 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)
 
#مقالرأي

(للتواصل zawya.arabic@lseg.com)