مع صعود نجم شركات التكنولوجيا العالمية مثل "مايكروسوف" و"أبل" و"جوجل"، برزت تحديات جديدة أمام هيئات مراقبة المنافسة الاقتصادية. ولا شك أن الغرامة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على شركة جوجل أخيرا، وبلغت نحو خمسة مليارات دولار، فتحت الباب على مصراعيه مجددا لبحث قضية شركات التكنولوجيا والاتهامات الموجهة إليها بممارسة الاحتكار في الأسواق على نطاق واسع، بما يضر بالمنافسة مع الشركات الناشئة أو الأصغر حجما، وما يؤثر سلبا في حقوق المستهلكين.

بطبيعة الحال فإن خطر الاحتكار لا يتوقف عند تلك الشركات فقط، فهو يمتد أيضا إلى "أمازون" و"فيسبوك"، ونظيراتها الصينية مثل "علي بابا" و"تينسنت" و"بايدو"، فنحو 90 في المائة من عمليات البحث على الإنترنت تتم عبر "جوجل"، و1 في المائة فقط من الهواتف الذكية يستخدم أنظمة تشغيل ليست أندرويد أو IOS، و94 في المائة من الشباب الذي يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لديهم ملف شخصي على موقع فيسبوك.

التحدي الأكبر الذي يجعل من الصعب – من وجهة نظر عدد من المختصين – تحدي شركات التقنية وهيمنتها شبه المطلقة على الأسواق، أنه لا يوجد نموذج واحد يحكم سلوكها الاحتكاري، فهي تمارس نماذج احتكارية مختلفة تسيطر بها على السوق، وبطريقة تسمح لها بتعظيم أرباحها إلى الحد الأقصى.

بعض الشركات التكنولوجية العملاقة توفر إلى حد كبير خدمات "مجانية" لمستخدميها، فشركة جوجل على سبيل المثال تحقق معظم أموالها من الإعلانات، على النقيض تظل شركة أبل شركة بيع أجهزة تكنولوجية، وفي عام 2016 استمدت نحو 84 في المائة من أرباحها من بيع أجهزة iPhone وiPad وMac، وتسمح الأرباح الناتجة عن تلك المبيعات بأن تستخدم الشركة استراتيجية مختلفة عن الشركات الأخرى مثل "جوجل"، وذلك على الرغم من أن الهاتف الذكي من طراز iPhone نادرا ما يستحوذ على 20 في المائة من مبيعات الهواتف في جميع أنحاء العالم.

لكن لماذا هذا الفزع الدائم من الطابع الاحتكاري الذي تمارسه شركات التكنولوجيا العالمية؟، ألم تثبت التجربة العملية أنها أحدثت تطورا نوعيا غير مسبوق في طبيعة المنتجات المتاحة لقطاع عريض من المستهلكين، خاصة المنتمين إلى الطبقة المتوسطة وتحديدا القطاعات الدنيا منها؟
ويجيب الدكتور فينست جون أستاذ مبادئ علم الاقتصاد لـ "الاقتصادية" قائلا "عندما تصبح صناعة ما كبيرة للغاية، فإنها تمارس ضغوطا على المجتمع وعلى الدولة.

ومع مرور الوقت تعمل على صياغة القوانين لمصلحتها، لتعظيم أرباحها على حساب المستهلك، وتضعف لديها الرغبة في الابتكار والإبداع، وذلك نظرا لاحتكارها الأسواق، ويصبح المتوسط السعري للمنتجات أعلى بكثير من قيمتها الحقيقية، وينتهي المطاف بأن العائد الحقيقي من الأرباح، لا يذهب حتى لأصحاب الأسهم، لأن الفائدة التي يحققونها من ملكية أسهمهم، تكون أقل من الزيادة السعرية في أسعار المنتجات، والمستفيد الحقيقي في تلك الحالة، مجلس الإدارة وكبار العاملين في الجهاز الإداري والبيروقراطي للشركة".

من جانبه يعلق كالين أندروا أحد ابرز الباحثين الاقتصاديين الداعين إلى ضرورة الإسراع بتحطيم ما يصفه بـ "الهيمنة السلبية" لشركات التكنولوجيا على الأسواق الدولية. قائلا، "الخطورة لا تكمن فقط فيما تمثله شركات التكنولوجيا العملاقة في حياتنا الراهنة، لكن الخطر الأعظم يكمن في المستقبل.

فتلك الشركات تتجاوز ميزانيتها الراهنة ميزانية عديد من الدول مجتمعة، وفي المستقبل ستصبح قوة مالية وتكنولوجية قد يصبح من المستحيل تحديها أو السيطرة عليها أو حتى إخضاعها لسلطة الدولة، فجميع شركات التكنولوجيا خاصة العملاقة تلعب دورا خطيرا في حياتنا الشخصية اليومية، وجميعها تعمل الآن على تطوير منتجات الذكاء الاصطناعي، وستؤثر تكنولوجيتها في معظم وظائفنا، ومعظم طرق الربح المالي ستتغير من خلال تلك التقنيات".

ويختتم قائلا "الحديث عن تجاوز تريليون دولار لبعض الشركات قضية أشهر، وخلال سنوات ستتجاوز قيمة بعضها تريليونين ونصف مثل "جوجل"، ومن ثم سيصعب التعامل معها كشركة، إنها حكومات بقدرات ابتكارية أعلى وأسرع، وإذا كانت بعض أنواع التكنولوجيا التي توصلت إليها تلك الشركات قد تمت في الماضي من خلال منح مقدمة من مؤسسات حكومية، خاصة وزارات الدفاع كنوع من البحث العلمي، فإن ضخامة ميزانيات تلك الشركات ستجعلها في غير حاجة إلى الدولة، وستتمتع باستقلالية وقدرة احتكارية غير مسبوقة".

ويعتقد عدد من المختصين أن أخطر ما قامت به شركات التكنولوجيا في تعزيز هيمنتها على الأسواق وتعزيز سطوتها الاحتكارية، أنها ربطت أي شركات ناشئة بها.

وبدوره يقول الن وايت المختص في مجال تكنولوجيا المعلومات "إن شركات التكنولوجيا الكبرى باتت الآن تحدد السقف والاتجاه الذي يجب أن تسير فيه الأسواق، فأحد الأشياء التي قامت بها ببراعة، أنه بات يتعين على الشركات الناشئة أو الصغيرة أن تلجأ إلى الوسائل التي أنتجتها تلك الشركات لتحقيق النجاح، فمثلا جميع الأفلام التي تشاهدها على موقع نيتفلكس، مخزنة على خوادم لدى شركة أمازون، ولذلك كل مرة تشاهد فيها فيلما على "نيتفلكس" فإن "نيتفلكس" تمثل في تلك الحالة نوعا من الدفع لـ "أمازون" مقابل التخزين، وذلك على الرغم من أن "أمازون" و"نيتفلكس" تتنافسان في هذا المجال".

وأضاف، "باختصار "أمازون" أجبرت خصومها على دفع "ما يشبه الإتاوة" لها لكي يستطيعوا العمل في السوق، أيضا جميع صانعي التطبيقات يضعون تطبيقاتهم في متجر تطبيقات "أبل" أو "جوجل"، وعندما يبيعون تلك التطبيقات فإن 30 في المائة من المبيعات تذهب إلى الشركتين، والإعلانات تكون على "جوجل" "و "فيسبوك"، ولذلك أي تطبيق جديد مثل أوبر على سبيل المثال وكل الأنواع الأخرى من الشركات الأصغر التي تعمل باستخدام الإنترنيت، يجب أن تمر عبر تلك الشركات التكنولوجية العملاقة للوصول إلى عملائها، بالطبع تلك الشركات تربح لكن شركات التكنولوجيا العملاقة تحصل على نصيب من الكعكة، ما يعني أن جزءا من أرباح اللاعبين الصغار يذهب إلى تلك الشركات، فهي كوحوش الأساطير اليونانية تنمو على حساب الصغار".

ويعتقد خصوم الشركات التكنولوجيا الكبرى، أن أحد مظاهر تحولها إلى قوى احتكارية، أنها نجحت في أن تجعل دور الشركات الناشئة في اقتصاد التكنولوجيا الحديثة ينحصر في كثير من الأحيان في تقديم أفكار للشركات الكبيرة كي تدار بها وتجني من ورائها الأرباح، كما أن الشركات الناشئة والمستهلكين باتوا يدفعون كثيرا من المال للشركات الكبيرة، ويقدر البعض على سبيل المثال أن نصف عائدات موقع سناب شات تذهب إلى "جوجل" نظرا لأن "جوجل" يستضيف المحتوى الفعلي لـ "سناب شات".

مع هذا يرى البعض أن هناك مبالغة في حجم المخاوف الناجمة عن الطابع الاحتكاري لتلك الشركات. الدكتورة تينا هارس تعتقد أن تلك المخاوف تأتي من جراء عملية إسقاط المفاهيم الاقتصادية التقليدية الخاصة بالشركات على الشركات التكنولوجية الحديثة.

وتقول لـ "الاقتصادية"، "علينا أن ندرك أن تلك الشركات التكنولوجية جديدة وتنمو في أسواق جديدة، ويصعب القول حاليا إنها مهيمنة على الأسواق، فـ "أمازون" بكل ما تملكه من سلطان في مجال البيع بالتجزئة، نطاقها العام لا يعد كبيرا، فهي لا تمثل نصف المبيعات على الإنترنت، لكن تلك الشركات تنمو بسرعة، وربما تكون في المستقبل المتحكم الفعلي في الأسواق، لكن في الوقت الحالي لا يزال في السوق متسع للجميع، وهذا تحديدا ما يجعل الهيئات التنظيمية غير معنية بتفكيكها حتى الآن.

© الاقتصادية 2018