في منتصف أغسطس، وبعد حرب استمرت عقدين من الزمن، استطاعت حركة طالبان أن تتولى السلطة في أفغانستان واستولت على العاصمة الأفغانية كابول، متجاوزةً بذلك صراع طويل مع القوات الأمريكية وقوات الحكومة الأفغانية السابقة.

وقد فتح ذلك الحدث المجال لنقاش واسع بين الأفكار المختلفة، فهناك من يرى الأمر هزيمة شديدة وواضحة للولايات المتحدة، وهناك من يرى أن ساحة الملعب في آسيا الوسطى بين الولايات المتحدة والصين تتشكل من جديد، وهناك من يرون أن الأحداث لا تخلو من خطورة إقليمية وعالمية مع تولي حركة لها أيديولوجية متشددة حكم دولة بأكملها وأثر ذلك على حركات أخرى في العالم. 

ولكن دعونا من الأيديولوجيات والجانب السياسي... ماذا يقول الاقتصاد...؟ 

لسنوات طويلة، وبطبيعة حال البلاد التي هي مسرح لصراعات مستمرة، عانى الاقتصاد الأفغاني من تحديات كبيرة، من هشاشة مؤسسية وعدم استقرار أمني، وجاءت الجائحة لتزيد الطين بلة. فوفقاً لوصف البنك الدولي، يمكن اختصار الاقتصاد الأفغاني بصفتين، هما الهشاشة والاعتماد على المساعدات. 

فبعد الاجتياح الأمريكي لأفغانستان في 2001 في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، وتولي الحكومة الجديدة والتي كان معظمعها من قوات التحالف الشمالي المعارض لطالبان، كانت هناك جهود دولية كبيرة لإرساء الأمر في أفغانستان على مشهد يخلو من طالبان. ومنذ عام 2002 اعتمد الاقتصاد الأفغاني بشكل كبير جدا على المساعدات، التي – وفقاً للبنك الدولي – ركزت على قطاع الخدمات ليقود بدوره النمو الاقتصادي لأفغانستان. وبلغت قدر تلك المساعدات 100% من إجمالي الناتج المحلي الأفغاني في بداية القرن، ثم تراجعت بعد 2009 تدريجياً لتصل ل 42.9% من الناتج في 2020، مع تراجع الوضع الأمني وتراجع أعداد القوات الدولية باستمرار. 

هل يوقف المجتمع الدولي التمويل..؟ 

مع الاعتماد الكبير للاقتصاد الأفغاني على المساعدات الدولية، يبقى جزء كبير من قدرته على تجاوز المصاعب الحالية متوقفاً على قدرته على تأمين تدفقات كافية من العالم الخارجي، وهو أمر مرهون قطعاً بقبول المجتمع الدولي والاقتصادات الكبرى للتطورات على الأرض، وهو – كما هو واضح – لن يكون سهل إن لم يكن مستحيل، ولكن في عالم السياسة غالباً ما لا يكون هناك مستحيل، فالأمر سيخضع للكثير من التوازنات وحروب السيطرة بين أطراف العالم المختلفة، منها ما سيكون واضح ومباشر ومنها ما سيكون خفي وتتم إدارته بشكل غير مباشر، ونعتقد أننا سنرى المساعدات والتدفقات الدولية ورقة قوية في المرحلة القادمة، تستخدمها الأطراف المختلفة لتشكيل المجريات على أرض الواقع الأفغاني وفقاً للرؤى، كلٌ وفقاً لمصالحه. 

وأول الغيث قطرة. فلم تكد طالبان تحكم سيطرتها على كابول حتى أعلن صندوق النقد الدولي وقف أيّة مساعدات أو موارد مالية لأفغانستان، معزياً ذلك لـ "عدم وضوح موقف المجتمع الدولي حيال الاعتراف بالحكومة في أفغانستان"، قاطعاً بذلك الطريق على موارد مالية كانت في طريقها للاقتصاد الأفغاني تحت مظلة اتفاق التسهيل الائتماني الممتد Extended Credit Facility بقيمة 370 مليون دولار، ذلك الاتفاق الذي تم التوصل إليه في نوفمبر 2020 في إطار عدة اتفاقيات لمساعدة أفغانستان على تجاوز أزمة كورونا، ولم تحصل منه إلا على الشريحة الأولى فقط بقيمة حوالي 81 مليون دولار، بينما كانت بقية الشرائح مرهونة بمراجعات نصف سنوية إلا أن مصيرها الآن أصبح مجهول. 

ومن المتوقع طبعا أن تقوم الولايات المتحدة بإجراءات مماثلة، حيث قامت بتجميد حوالي 9.5 مليار دولار أمريكي من الأصول التابعة للبنك المركزي الأفغاني. 

ولم يمض وقت طويل بعدها حتى قررت مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى عقد اجتماع طارىء لمناقشة الوضع في أفغانستان، من حيث إمكانية مد أجل الانسحاب والإخلاء المقرر في آخر أغسطس، وكذلك من ناحية بحث سبل ما أسموه "الحفاظ على مكتسبات العشرين سنة الماضية" و – بالطبع لن يخلو الأمر من مناقشة عقوبات اقتصادية مجدداً على أفغانستان أو حركة طالبان على وجه الدقة. 

الفكرة هنا، أن موارد طالبان هي بطبيعتها بعيدة عن الإطار الرسمي، وحتى لا يوجد لها أرقام واضحة أو مؤكدة أو – بالطبع – رسمية، وإنما ظلت قاصرة على التكهنات والتقديرات المختلفة، وكذلك ارتباط تلك الموارد بأنشطة منها ما هو غير مشروع كتجارة الأفيون أو بعض أعمال الخطف والمساومات. ولذا، يصعب تقدير حجم قدرة طالبان على تعبئة الموارد التي اتسعت الفوارق في تقديراتها بين 300 مليون دولار، إلى 1.6 مليار دولار سنوياً. فإلى أي مدى سيستطيع المجتمع الدولي حصار أنشطة غير مرصودة بالفعل؟ 

من ناحية أخرى، فإن طالبان تتمتع بالفعل بالسيطرة على نسبة كبيرة من الثروة التعدينية الأفغانية. فحسب تقرير صدر عن مجلس الأمن في يونيو الماضي، أقرت الحكومة الأفغانية أنها تسيطر فقط على 281 من مناطق التعدين الرئيسية، بينما يقع 148 تحت سيطرة ما يطلق عليهم أمراء الحرب، بينما 280 من مناطق التعدين الباقية والمنتشرة في 26 مقاطعة أفغانية تقع تحت سيطرة خالصة لطالبان. هذا، بالطبع بالإضافة إلى الضرائب التي تفرضها الحركة في المناطق التابعة لها. 

كل ذلك ليس محل تغيير كبير متوقع، وإنما الساحة التي قد تشهد العديد من التغيرات هي ساحة العلاقات الدولية. فهل سيتخذ المجتمع الدولي توجه واحد غالباً ما سيكون معادي لطالبان ومقلص لصلاحياتها ومعاكس لسيطرتها على أفغانستان؟ أم ستكون هناك بعض القوى التي ستعمل على تحقيق مصالحها الإقليمية بشكل ما خارج النغمة المعهودة للدول الغربية؟  

الأمر ليس بالمستحيل، فكما رأينا، تتحدث الصين عن إمكانية بناء علاقات جيدة مع طالبان، معلنة أن الحركة أصبحت أكثر عقلانية من الماضي، ومن الممكن أن نرى تعاون اقتصادي بين دول خارج العباءة الأمريكية من ناحية وبين أفغانستان الطالبانية إذا صح التعبير من ناحية أخرى، تكون فيها ورقة التنمية الاقتصادية أمام عدد من الأوراق الأخرى المتعلقة بالتوازنات السياسية، وهو ما سيكشف عنه المستقبل القريب، أو هكذا أظن. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بشركة فاروس القابضة للاستثمارات المالية بمصر والمحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كمحللة اقتصادية أولى بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحثة اقتصادية في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.