29 05 2016
تكهنات سعر الفائدة تصيب الأسواق بالاضطراب
تتجه أسعار الذهب في الشهر الحالي إلى تحقيق أعلى خسارة لها منذ شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، والسبب في ذلك صناع السياسة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، فبمجرد أن انتشرت تكهنات بأن مجلس الاحتياطي الفيدرالي سيقوم بزيادة أسعار الفائدة في شهر حزيران (يونيو) أو تموز (يوليو) المقبلين، تعرضت أسعار المعدن النفيس لحالة من الاضطراب متجهة إلى الانحدار السعري.
وتشير التقديرات إلى أن الذهب قد فقد نحو 5.7 في المائة من قيمته خلال الشهر الحالي، وبالطبع ارتفعت قيمة الدولار جراء الإقبال المتزايد على الطلب عليه من قبل المستثمرين، فيما لا تبدو التصريحات الصادرة من قبل جانيت يلين رئيسة المركزي الأمريكي مطمئنة بأي حال من الأحوال لأسواق الذهب.
فخلال محاضرة لها في جامعة هارفارد الأمريكية أقرت يلين بأن الوقت بات ملائما لزيادة أسعار الفائدة خلال شهر أو شهرين، وكانت تلك التصريحات كفيلة بتراجع أسعار الذهب الذي هبط في ختام تعاملات الأسبوع 1 في المائة مسجلا أدنى مستوى له في ثلاثة أشهر وزادت خسائره.
ودفعت تلك التصريحات مؤشر الدولار إلى أعلى مستوى له في شهرين، وتراجع الذهب 0.9 في المائة في المعاملات الفورية إلى 1208.9 دولار للأوقية "الأونصة"، بعدما هوى إلى 1206.45 دولار في وقت سابق من الجلسة مسجلا أدنى مستوى منذ 22 شباط (فبراير).
وقاد ذلك المعدن الأصفر إلى تسجيل خسارة أسبوعية 3.5 في المائة تعتبر الأكبر منذ مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) ورابع خسارة أسبوعية على التوالي بعدما أشار محضر اجتماع "المركزي الأمريكي" الذي نشر الأسبوع الماضي إلى أن رفع الفائدة ربما يكون عاجلا وليس آجلا.
وتراجع المعدن في العقود الأمريكية الآجلة تسليم حزيران (يونيو) 0.5 في المائة عند التسوية إلى 1213.80 دولار، ومع هذا تبدو تلك الحقائق قابلة لتأويل وقراءة أخرى من قبل بعض المختصين في مجال صناعة وتجارة الذهب.
وأوضح لـ "الاقتصادية"، دافيد ويليم المختص في تجارة الذهب، أن ما يحدث من تقلبات في أسواق المعدن النفيس "مؤقتة"، وأن الأسواق ستستعيد توازنها أسرع كثيرا من التوقعات السائدة، مشيرا إلى أن الفكرة الأساسية للاستثمار في الذهب هي أنه يكون مفيدا في أوقات الأزمات.
وأضاف ويليم أن "هناك استثمارات في الوقت الحالي تقدر بتسعة ترليونات دولار في السندات السيادية ذات العائد السلبي، كما هو الحال في اليابان وبعض البلدان الاسكندنافية"، مشيرا إلى أن الأوضاع الاقتصادية في الصين سلبية، بينما يسود التوتر العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، ووسط تلك العوامل فإن للذهب مكانة مستقبلية جيدة.
وحول الإقبال على الدولار في مواجهة الذهب مع زيادة التكهنات بارتفاع أسعار الفائدة، يرى ويليم أن الإقبال على الدولار سيكون "مؤقتا"، "وعلينا أن نتذكر أن المزارعين في الصين والهند، وهما قطاعان رئيسيان في استهلاك الذهب عالميا، مرتبطان بالذهب وليس بالعملة الأمريكية".
وفي الواقع إذا تم استثناء الشهر الحالي والتكهنات التي اجتاحته بشأن تغيير سعر الفائدة الأمريكية، فإن أسعار الذهب منذ بداية العام وحتى الآن، ارتفعت بما يراوح بين 16-20 في المائة، وخلال الربع الأول من هذا العام زادت أسعار الذهب بـ 17 في المائة، هو ما يعكس زيادة الطلب من قبل المستثمرين عليه، لكن زيادة الطلب تلك تبدو مقلقة لدى البعض لأنها لا تعكس اتجاهات طبيعية، بقدر ما تعكس من وجهة نظر البعض رغبة صينية مخططا لها بإحكام للسيطرة على سوق الذهب العالمية.
الدكتور جوردن بيرنيت أستاذ الاقتصاد الدولي يعتقد أن سوق الذهب تشهد ما يصفه "بهجوم صيني" للهيمنة على أسواق المعدن النفيس، خاصة بعد ضم اليوان إلى مجموعة عملات السحب الخاصة التابعة لصندوق النقد الدولي، مضيفا أن "البنك المركزي الصيني يسعى بهيمنته على سوق الذهب إلى تعزيز مكانة البلاد في النظام العالمي".
وأشار لـ "الاقتصادية"، إلى أن الصين قامت في 19 نيسان (أبريل) الماضي بإنشاء آلية خاصة بها لتحديد سعر الذهب، وهي آلية مشابها لتلك الموجودة في لندن إذ يتم تحديد السعر مرتين يوميا، لكن هذا لا ينفي وجود اختلاف كبير بين الآليتين، ففي لندن تتم عملية التقييم بالدولار واليورو وبالطبع الاسترليني أما في بورصة شنغهاي فإن تحديد سعر الذهب يتم باليوان الصيني فقط، والنتيجة أن بورصة شنغهاي لتبادل الذهب تعد الآن أكبر بورصة في العالم في هذا المجال وتفوقت على بورصة لندن.
ويعتقد بيرنيت أن تلك الخطوة التى تزامنت مع اتفاق البنك الصناعي والتجاري الصيني "آي سي بي سي" الذي يعد أكبر بنك في العالم وفقا لقيمة الأصول التي يمتلكها مع بنك "باركليز" لشراء محفظة للمعادن النفيسة في لندن، وهذا الاتفاق سيكون ساري المفعول من شهر تموز (يوليو) المقبل، وبمقتضاه يحق للصينين الاحتفاظ بـ 2000 طن من الذهب أي ما يعادل 90 مليار دولار في لندن، فإذا أخذنا في الاعتبار أن الصين أكبر منتج ومستهلك للذهب في العالم، وأصبح لديها الآن القدرة على تحديد السعر وبعملاتها المحلية، وأن يكون لديها هذا الاحتياطي الضخم من الذهب في أوروبا، فسيكون لديها دور أكبر بكثير في توجيه سوق الذهب العالمية وأسعارها خلال العقد المقبل.
والسؤال الآن: لماذا هذا الحرص الصيني على أن تكون لبكين السيادة في قطاع الذهب حول العالم؟، حيث تشير الأرقام إلى أن احتياطي الصين من المعدن النفيس بلغ 1658 طنا من الذهب، وهذا جزء صغير من احتياطي الذهب الأمريكي البالغ ثمانية آلاف طن، أما ألمانيا وصندوق النقد الدولي، فالاثنان معا يبلغ احتياطيهما ثلاثة آلاف طن.
ومع هذا فإن بعض المختصين يعتقدون أن الصين عمليا سيكون لديها احتياطي يقدر بأربعة آلاف طن من الذهب إذا أخذنا في الاعتبار ما تقوم بتصديره، وما تقوم بتخزينه حاليا، إضافة إلى قدرتها الإنتاجية، لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة.
ولفهم موقف الصين من سوق الذهب العالمية، أوضح لـ "الاقتصادية"، الدكتور إيدورد بيكت أستاذ الاقتصادات الآسيوية أن معظم كتابات المنظرين الاقتصاديين الرسميين في الصين تشير إلى عدم قناعة بكين بأن النظام المالي العالمي الراهن سيستمر لفترة طويلة، فالقوة الاقتصادية للولايات المتحدة تتآكل لمصلحة نمو قوة دولية جديدة مثل الصين والاقتصادات الناشئة، والنظام المالي العالمي الراهن مبنى أساسا على قوة الدولار، فإذا انهار هذا البناء واضطرت القوى الدولية إلى الجلوس معا من أجل وضع أسس لنظام عالمي مالي جديد، فإن القوى النسبية ستعتمد على ما تمتلكه كل دولة من احتياطي الذهب، وتلك النظرة المستقبلية هي السبب الرئيس وراء التركيز الصيني على الهيمنة على سوق الذهب العالمية.
ومن هذا المنطلق يعتقد بعض المختصين، أن النظرية الاقتصادية القائلة إن ارتفاع سعر صرف الدولار يؤدي حتما إلى تراجع أسعار الذهب والعكس بالعكس، في حاجة إلى إعادة نظر في ضوء التطورات الاقتصادية الدولية، ويرجع ذلك إلى أن سياسة التيسير الكمي لدى البنك المركزي الأوروبي والياباني قد أدت عمليا إلى تراجع سعر صرف اليورو والين في مواجهة الدولار، لكنها أدت إلى ارتفاع قيمة الذهب باعتباره ملاذا آمنا ومستقرا للقيمة في مواجهة التراجع الملموس في العملة الأوروبية الموحدة والين الياباني.
وعلى الرغم من الوضع المرتبك لأسعار الذهب في الشهر الجاري، فإن المعدن النفيس كان الأفضل آداء منذ بداية العام، وفي الأغلب فإن الهزة المتوقعة له مع ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية ستكون هزة مؤقتة، يعاود بعدها الارتفاع.
وتشير بيانات المجلس العالمي للذهب إلى زيادة الطلب العالمي على المعدن النفيس خلال الربع الأول من العام الحالي بنحو 21 في المائة ليصل إلى 1290 طنا، ليصبح بذلك أعلى ثاني ربع سنوي في تاريخ الذهب، وحافظت البنوك المركزية على موقع متقدم بوصفها من أقوى المشترين للذهب حيث قامت خلال الربع الأول من العام الحالي باقتناء ما يصل إلى 109 أطنان، فيما كانت صناديق التبادل التجاري المشتري الأكبر للذهب خلال تلك الفترة إذا قامت بشراء نحو 364 طنا من الذهب.
وقالت لـ "الاقتصادية"، تريسي بيل المختصة في صناديق التبادل التجاري، "إن التغيرات في الاقتصاد الكلي العالمي، وعدم الاستقرار في البيئة الاقتصادية العالمية، خلقت مناخا إيجابيا لطلب صناديق التبادل التجاري على الذهب خلال الأشهر القليلة الماضية، فسياسات الفائدة السلبية تكشف عن تبني البنوك المركزية الأوروبية والبنك المركزي الياباني سياسات مالية غير تقليدية، وهذا يعني عدم استقرار اقتصادي".
وأشارت بيل، إلى أنه على الرغم من المخاوف من ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، فالمؤكد أنها لن تكون كبيرة نظرا لعدم قدرة الاقتصاد الأمريكي على تحمل معدلات فائدة مرتفعة في الوقت الراهن، مضيفة أن "تلك الوضعية الاقتصادية دفعت بصناديق التبادل التجاري إلى رفع نسبة الذهب ضمن إجمالي الاحتياطي العام".
© الاقتصادية 2016