يمر العالم اليوم بأزمة اقتصادية تحمل بعض ملامح أزمة السبعينات من حيث ارتفاع أسعار الوقود العالمية على وقع أزمة جيوسياسية حادة في شرق أوروبا، مصحوبة بارتفاع في معدلات التضخم العالمية.

كما تتشابه الأزمة الجارية مع تلك الفائتة في الأدوات المستخدمة لمواجهتها: تبني سياسات نقدية ومالية انكماشية في الولايات المتحدة خاصة، عن طريق رفع الفيدرالي الأمريكي المتوالي لأسعار الفائدة على الدولار.

 وبما إن الدولار الأمريكي هو العملة العالمية الأكثر استخداما في التجارة في السلع وحركة رؤوس الأموال العالمية فإن تغير السياسة النقدية الأمريكية من توسعية إلى انكماشية له أثر بالغ على الاقتصاد العالمي سواء في شقه الحقيقي أي التجارة أو في شقه المالي الخاص بالاستثمارات المباشرة وغير المباشرة.

فما هي حدود هذا التشابه في الجذور والعوامل وكيف يمكن الاستفادة من دروس أزمة السبعينات؟

يضع رفع سعر الفائدة على الدولار ضغوط هائلة على الاحتياجات التمويلية لأغلب دول الجنوب العالمي مؤديا إلى موجات من التعثر المالي بل والإفلاس بين أكثرها انكشافا، خاصة تلك منخفضة الدخل.

وقد تبدى هذا بالفعل في حالات مثل لبنان وسريلانكا، و انخفاضات حادة في العملات الوطنية في مواجهة الدولار في حالات مثل تركيا والأرجنتين ومصر. 

وتأتي هذه المخاوف بعد توسع غير مسبوق في مستويات المديونية الحكومية في معظم دول العالم في السنتين السابقتين.

ويذكر هذا بأزمة الديون التي ضربت دول أمريكا اللاتينية في الثمانينات، وأدت إلى إفلاس بعضها كالمكسيك وتعثر أخرى كثيرة كالبرازيل والأرجنتين.

وجدير بالذكر أن أزمة الديون وقتها ارتبطت بتوسع شديد في السيولة الدولارية نتيجة تدفق البترودولار من الدول الغنية بالنفط، والتي استفادت من صدمتي النفط في 1973 و1979، إلى المصارف الأوروبية والأمريكية، ما أتاح تكلفة تمويل منخفضة نسبيا لحكومات أمريكا اللاتينية ثم أسفرت التغييرات في السياسة النقدية مع صعود حكومة رونالد ريجان المحافظة إلى رفع مفاجئ لتكلفة التمويل للدول الأكثر انكشافا ما دفعها إلى عدم القدرة على خدمة ديونها. 

أزمة أكثر توزيعًا

يبدو أن الأزمة الراهنة ستكون أكثر توزيعا من الناحية الجغرافية بما يشمل دول في أغلب قارات العالم تنتمي لمجموعات دخل مختلفة.

كما أن هذه الأزمة تأتي على اقتصاد عالمي مختلف من الناحية الهيكلية كونه أكثر اندماجا مما كان قبل خمسين سنة، وأكثر اعتمادا على أسواق المال العالمية من ناحية أخرى، خاصة من خلال أشكال متنوعة من الاستدانة الخاصة والعامة. 

فنجد أن متوسط الاستدانة الحكومية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفع من 60 إلى 67% بين 2018 و2020 للدول منخفضة الدخل مقارنة بارتفاع من 54 إلى 61.4% للشرائح الدنيا من الدول متوسطة الدخل.

وهذه المعدلات هي الأعلى في العشرين سنة الماضية.

ورغم أن هذه النسب لا تمثل الديون المقومة بالدولار فحسب كونها تشمل الديون المحلية، إلا أنها تؤشر في المجمل إلى زيادات غير مسبوقة في مستويات الاستدانة العالمية، ما يجعل الدول أكثر عرضة لارتفاع تكلفة التمويل.

يمكن القول أن أسواق المال العالمية اليوم أكثر اندماجا واتساعا، ما يعني كذلك أنها أكثر عمقا مما كانت عليه في السبعينات والثمانينات، وهو العصر الذي لم تكن فيه رؤوس الأموال تتحرك بالحرية التي تتمتع بها اليوم، وكانت قنوات انتقالات رؤوس الأموال مقتصرة على منظمات التمويل الدولية أو من خلال المصارف التي قدمت قروض تجارية بشكل مباشر لحكومات عدة خلافا للوضع الراهن الذي توجد فيه أشكال تمويلية أكثر تعقيدا كأسواق السندات.

وعلى الرغم من أن هذا الاندماج يهدد باتساع نطاق مخاطر الاضطراب المالي واحتمالات تضرر الاقتصاد العالمي ككل جراء الركود التضخمي، فإن عمق الأسواق المالية وتغلغل أنشطة التمويل في الاقتصاد العالمي يعني أن هناك موارد أكثر قد تكون متاحة للحيلولة دون استفحال أزمات المديونية ووصولها إلى الأسواق الرئيسية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشرق آسيا. 

ومن هنا فإن الأزمة الحالية في الأغلب ستقف عند أطراف النظام الاقتصادي كما حدث في أزمة السبعينات والثمانينات خلافا لأزمة 2008/2009، وسيؤدي هذا إلى فرض شروط مجحفة على تلك الدول القابعة في شرائح الدخل المتوسط والأدنى من أجل الوصول إلى مصادر التمويل اللازمة لإقالتها من عثرتها.

ويعني هذا أن تكلفة مواجهة آثار الركود التضخمي وارتفاع أسعار المواد الأولية ومعها تكلفة برامج مواجهة وباء كورونا ستقع في نهاية المطاف على كاهل الأطراف الأضعف في الجنوب العالمي كما حدث قبل خمسين سنة، ولكنها لن تقتصر على أمريكا اللاتينية بل ستشمل أطراف عدة في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا أيضا.

فما العمل؟

يمكن القول أن أزمات المديونية العالمية سرعان ما تتحول إلى أزمات سياسية تتطلب أشكال من الإدارة والتنسيق.

لعله من المهم في اللحظة الراهنة إدراك أن التتابع المخيف من سنوات الوباء والأزمة الأوكرانية الممتدة قد خلق السياق لأزمات مالية ومن ثم اقتصادية تمس العشرات من الدول منخفضة ومتوسطة الدخل في آن واحد بدرجات متفاوتة، وأن الأمر يتجاوز دولة هنا ودولتين هناك إلى الحاجة لآلية سياسية تجمع الحكومات والمقرضين ومنظمات التمويل الدولي –بما يشبه أطر مثل نادي باريس ولكن بشكل جماعي هذه المرة- للتفاوض حول شروط الاستدامة المالية.

إن الغرض هنا ليس فحسب تخفيض مخاطر اضطراب أسواق المال أو حفظ حقوق المقرضين، ولكن التحرك المسبق لمواجهة تداعيات سياسية واجتماعية واسعة النطاق في بلدان الجنوب العالمي على نحو سيؤثر على النظام الأمني العالمي -المضطرب أصلا- وليس المالي فحسب. 

(إعداد: عمرو عادلي، محلل اقتصادي بزاوية عربي وأستاذ مساعد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بقسم العلوم السياسية)

للاشتراك في تقريرنا اليومي الذي يتضمن تطورات الأخبار الاقتصادية والسياسية سجل هنا

#مقالرأي