06 02 2016

أزمات الصين والنفط قابلة للاحتواء

 كان ذلك في صباح أوائل سبتمبر عندما كان كبار المستثمرين في كارميغناك، صندوق إدارة الأصول الفرنسي، يشاركون في نقاش بدأوه منذ أشهر حول مدى هشاشة الاقتصاد العالمي؟ الآن، وفي محاولة لاستيعاب أثر قرار أغسطس الذي اتخذته السلطات الصينية للسماح لقيمة الرنمينبي بانخفاض طفيف، كان الوقت قد حان للتحرك.

كانت لدى صندوق الشركة الرئيسي باتريموان، الذي يدير أصولاً بقيمة 25 مليار يورو، أسهم بقيمة 10 مليارات يورو، وقد اتخذ قراراً بشراء التأمين مقابل المحفظة برمتها. فعليا كان ذلك يعني انسحابا من سوق الأسهم بانتظار ما سيحدث.

بعد موجة بيع مكثفة، استعادت الأسواق توازنها، وفي ديسمبر كان مجلس الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة واثقا بما فيه الكفاية بشأن توقعات رفع أسعار الفائدة للمرة الأولى منذ عشر سنوات تقريبا. ولكن في الأسابيع الأخيرة، بدا قرار كارميغناك بأنه القرار الصحيح: إذ كان يناير بمنزلة كارثة لأسواق الأسهم، التي لم تنخفض الى هذا المستوى وبهذه السرعة أبدا في بداية أي عام.

يقول ديدييه سان جورج الخبير الاستراتيجي في صندوق ادارة الأصول الفرنسي: «كان تفسيرنا للقرار الصيني بأنه مؤشر على وجود خطر، وأن هذا هو أول تأثير أساسي وملموس لنهاية برامج التيسير الكمي».

دان ماكرم وروبن ويغلزويرث وجينفير هيوز - ترجمة وإعداد إيمان عطية -
فقدت أسواق الأسهم العالمية أكثر من 4 تريليونات دولار من قيمتها هذا العام. وتحوّلت المخاوف بشأن التباطؤ الاقتصادي في الصين وتخفيض عملتها الى ما يشبه الذعر. وتضررت أسواق السندات من القوى المتضاربة للبنوك المركزية التي تبيع احتياطياتها لدعم عملاتها وهروب المستثمرين الذين يهرعون بحثاً عن السلامة.

فقدت الأسهم الصينية في شنغهاي وشينزن خمس قيمتها في الأسبوعين الأولين من يناير. وتراجعت مؤشرات الأسهم في اليابان وأوروبا والولايات المتحدة بنسبة تصل إلى %10. وانخفضت أسعار السلع الأساسية بشكل حاد مع بلوغ سعر النفط أقل من 28 دولاراً للبرميل، وهو السعر الذي سجل آخر مرة في عام 2004.

دوامة التشاؤم آخذة في التطور، مع قيام الخبراء الاستراتيجيين والمستثمرين البارزين بتوصية عملائهم بالانسحاب من الأسهم، والتوجه نحو السندات الحكومية الآمنة.

وبالاضافة إلى المخاوف بشأن تباطؤ النمو في الصين، يشعر المستثمرون بالقلق من ضعف أرباح الشركات الأميركية وصحة مجموعة شركات التعدين والطاقة، التي أخذت على عاتقها الكثير من الديون عندما كانت أسعار المواد الخام أعلى بكثير، إضافة الى الآثار المترتبة على انهيار أسعار الطاقة.

ويبحث المستثمرون في الولايات المتحدة عن إجابة لسؤال: ما الذي يمكنه أن يعيد الثقة، ليس فقط للصين بل لبقية العالم؟
ما هو على المحك الآن هو مصداقية صانعي السياسات في جميع أنحاء العالم، لا سيما مجلس الاحتياطي الفدرالي، الذي رفع الشهر الماضي تكاليف الاقتراض لليلة واحدة للمرة الأولى منذ عشر سنوات. وكان صاحب اضطراب السوق في يناير تعزيز الدولار لقوته على نطاق واسع، الأمر الذي أدى فعلياً إلى تشديد الأوضاع المالية والإضرار بالصناعة المحلية المجبرة على التنافس مع الواردات الأرخص تكلفة وثمناً.

يذكر أن البنك المركزي الأميركي أجل تحولا في الاقتراض كان متوقعا على نطاق واسع في سبتمبر الماضي بعد اضطرابات السوق الناجمة عن قرار الصين المفاجئ خفض قيمة الرنمينبي. أسعار سوق السندات تعني ضمنياً تضاؤل التوقعات بحدوث زيادات في أسعار الفائدة الأميركية هذا العام، في الوقت الذي ينبغي أن يشهد الاقتصاد الأميركي زيادة في حجم الإنفاق الاستهلاكي جراء الانخفاض الحاد في أسعار النفط.

يقول آرثر باس، العضو المنتدب في كويكس بارتنرز «مجلس الاحتياطي الفدرالي سيجد صعوبة أكبر فى رفع أسعار الفائدة الآن مع تراجع الأسهم بنسبة %8 هذا العام، وانخفاض النفط الى مستويات متدنية جديدة وتزايد المخاوف من أن التضخم سوف يأخذ وقتا أطول للوصول الى النسبة المستهدفة عند %2».

التحدي الذي يواجه صناع القرار هو أن المستثمرين يواصلون خروجهم من أسواق السلع والأسهم وسندات الشركات، الأمر الذي يحفز تدافعا يضر بالثقة بين الشركات والمستهلكين. بعد الأزمة المالية، اتخذت البنوك المركزية اجراءات استثنائية لتحفيز اقتصاداتها، لكن النمو كان مخيبا للآمال.

ومن المفترض أن يكون مجلس الاحتياطي الفدرالي قد أغلق الباب على حقبة ما بعد الأزمة، لكن مع أسعار الفائدة التي لا تزال قريبة من الصفر واحتمال ضئيل لوجود برامج تحفيز مالي، يكمن القلق في أن صناع السياسات استنفدوا جميع الأدوات المتاحة أمامهم.

ويرى البعض أن الاضطرابات في السوق سوف تجبر السلطات في الصين على اتخاذ حزمة من اجراءات التحفيز قبل العام الصيني الجديد في 8 فبراير، عندما تغلق الأسواق لمدة ثلاثة أيام على الأقل وتتباطأ الأعمال.

الا أن هناك عدة مخاوف من أن تجميع حزمة تدابير قابلة للتطبيق يحتاج الى مزيد من الوقت مع تراجع مصداقية الصين فعليا بسبب أفعالها المتسرعة على نحو واضح: بدءا من عمليات شراء الأسهم القسرية من قبل ما يسمى «الفريق الوطني» في الصيف الماضي الى التخلي عن « قواطع الدورات»، التي فرضت وقفا للتداول في أسواق الأسهم المتراجعة في يناير.

يتساءل شينغ دونغ تشن، كبير الاقتصاديين المختصين بالصين في مصرف بي ان بي باريبا « ما هو التصريح الذي يمكن الادلاء به؟ لقد أطلقوا الكثير من التصريحات. ان خفض نسب الاحتياطي لا يبدو أنه نجح على النحو الذي يريدون. هل يقولون انهم يستخدمون أداة المضاربة في سوق الأسهم؟ وهو الاجراء الذي تعرض لانتقادات كثيرة العام الماضي».

ولم تعمل محاولات ادارة الرنمينبي الا على زيادة المخاوف فقط. اذ واصل بنك الشعب الصيني في انفاق احتياطيات العملة الأجنبية لحماية الرينمينبي وتدخل في الأسواق لتضييق الفجوة بين أسعار الصرف في الخارج وأسعار الصرف في الداخل التي يسيطر عليها.

وفي الوقت الحالي، قد تكون الآمال لأن تقدم بكين على اجراءات لتعزيز الثقة في المستقبل القريب في غير محلها، كما يقول العديد من المراقبين المخضرمين في الصين، ذلك أن السلطات في بكين لن تقدم على أي اجراء جذري قبل اجتماع محافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين في منتصف فبراير. الصين هي الدولة المضيفة للاجتماع هذا العام، وتملك سجلا في قمع تقلبات السوق في الفترة التي تسبق الأحداث التي تكون محط أنظار الجميع.

البحث عن نقطة النهاية
في غياب أي اجراءات، قد يقوم المستثمرون في بقية أنحاء العالم بأخذ زمام المبادرة من أسواق الأسهم الصينية. لكن هناك فرقا واضحا بين أزمة مصرفية، مثل تلك التي هددت النظام المالي في الولايات المتحدة في عام 2008، والتباطؤ الاقتصادي البحت.

ويجادل جورج ماغنوس، الأستاذ المساعد في مركز الصين في جامعة أكسفورد ومستشار اقتصادي بارز في مصرف يو بي اس، أن الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل 3 أو %4 سنويا، ورغم أنه أبطأ بكثير مما كان عليه في العقد الماضي، فان ذلك لن يكون مشكلة بالنسبة لبقية العالم.

ويضيف « لقد كان من المألوف جدا أن يتم ربط الاضطرابات المالية بوقوع ركود عالمي وشيك، لكن لا أعتقد أن هذا صحيح».

ومع ذلك، فإن الاتجاه في الصين هو مجرد قضية واحدة ضمن قضايا أكبر تواجه المستثمرين.

فكما يقول كريغ بوثام الخبير الاقتصادي المتخصص في الأسواق الناشئة لدى شرودرز: «يمكن أن يعزو مستوى عدم اليقين في الأسواق إلى مصدرين وهما الصين والنفط. وكلاهما شكّلا صعوبة بالغة في أن يتخذ المستثمرين قرارا بشأنهما، ولهذا السبب لا أحد متأكد من نهاية هذا الوضع».

في أعقاب قرار السلطات الغربية برفع عدد من العقوبات المفروضة على إيران، انخفضت أسعار النفط العالمية إلى أدنى مستوياتها منذ 12 عاماً، الأمر الذي زاد من الضغوط على الاقتصادات النامية التي تعتمد على تصدير السلع الأساسية.

«اننا نشهد انخفاضاً في الانفاق الرأسمالي في الأسواق الناشئة، وضعفاً في عائدات السندات ذات العائد المرتفع في الولايات المتحدة. مع ذلك، لا نرى زيادة في انفاق المستهلكين الذي من المفترض أن تقدمه أسعار النفط المنخفضة»، بحسب بوثام الذي يرى في تحركات السوق «الكثير من القلق حيال ضعف انتعاش التجارة العالمية».

في الواقع، أحصت وكالة ستاندرد آند بورز 112 حالة تخلف عن السداد في سندات الشركات العام الماضي، وهو العدد الأكبر منذ عام 2009. كما ارتفعت حالات التعثر في الشركات المثقلة بالدين بشكل ملحوظ في الأشهر الستة الماضية، مع أكبر زيادة في نسبة الشركات التي يعتقد أنها تواجه خطر تخفيض التصنيف الائتماني منذ ست سنوات.

ويقال أيضاً إن سوق الأسهم الأميركية ينفد منها الزخم بعد سنوات من الصعود. وكانت المكاسب الكبيرة لعدد قليل من الشركات الكبيرة جدا والشهيرة العام الماضي عملت على دعم مؤشر ستاندارد آند بورز 500، ولكن أسهم ما يسمى بـ«فانغ»، أي فيسبوك وأمازون ونيتفلكس وغوغل، انخفضت هذا العام.

في الواقع، تضع الأسهم وسندات الشركات والسندات الحكومية نسبة %50 لامكانية حدوث ركود هذا العام، وفقا لجان لويس كبير الخبراء الاستراتيجيين في بنك جي بي مورغان، الذي يقول إن المعنويات أصبحت متشائمة جدا وبعيدة عن واقع البيانات الاقتصادية.

وقد تبدأ مسيرة البيانات الاقتصادية الجيدة، بما في ذلك أرقام العمالة للاقتصاد الأميركي التي ستصدر في 5 فبراير، في إعادة الثقة عند المستثمرين. وهو ما يشير إليه جان هاتزيوس من مصرف غولدمان ساكس، الذي يسلّط الضوء على الروابط الضعيفة بين الصين والولايات المتحدة وأوروبا. كما يقدر بأنه حتى في حال حدوث انهيار بنسبة %10 في الواردات الصينية، فإن ذلك لن يؤدي الا الى انخفاض بنسبة %0.1 فقط في الناتج المحلي الاجمالي في بلدان العالم المتقدم مباشرة.

حتى مع سيناريوهات هاتزيوس الأكثر سلبية، حيث يتباطأ النمو الصيني بشكل حاد عن التقدير الحالي المتشائم بالفعل الذي قدّمه غولدمان ساكس عند %5، أقل بكثير من التوقعات الرسمية عند نحو %7، فإن التأثير العالمي سيكون مؤلماً، ولكن يمكن التحكم به، وبعيداً بما فيه الكفاية عن اغراق العالم في ركود جديد.

بعد أول عشرة أيام صعبة من التداول هذا العام، فإن النتيجة ربما الأكثر ملاءمة للمستثمرين: نتيجة لا تختفي فيها المشاكل، ولكن يمكن على الأقل احتواؤها.

في هذا السيناريو، تكون أسعار السلع الأساسية انعكاساً للافراط في الاستثمارات في زمن الازدهار من قبل الصناعات التي تنقب عنها وتنتجها، وليس ركودا في الطلب العالمي.

قوة الدولار تعد علامة على تعافي الاقتصاد الأميركي. وانخفاض أسعار الفائدة العالمية سيحفز في نهاية المطاف انتعاشاً مطرداً في النشاط الاقتصادي. وآلام الصين تعكس التحول من دولة صناعية تنمو بوتيرة سريعة إلى مجتمع يقوم اقتصاده على الخدمات والاستهلاك المحلي.

ربما تقدم الأسواق إشارة للمستثمرين وصناع القرار بأن سنة صعبة بانتظارهم، دون أن يعنى ذلك حكماً أن كارثة على وشك الحدوث.

وكما يقول ماغنوس «الصين تشبه إلى حد ما مأساة شكسبيرية. أنت تعرف ما سيحدث في النهاية، ولكن كم فصل سيستغرق الوصول إلى تلك النهاية».

© Al Qabas 2016