بعد العيش مع قيود الإغلاق لأكثر من عام الآن، تعود الحياة لتدب في العديد من الدول حول العالم مع توسع توزيع اللقاحات عالميا وأصبح الناس يتطلعون إلى العودة إلى الحياة الطبيعية ويشعرون ببعض الراحة من التقدم في مجال التطعيمات.  

و من المرجح أن يؤدي هذا التوزيع السريع للقاحات إلى انتعاش قوي في نمو الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني في العديد من الدول التي أنجزت شوط كبير في تطعيم سكانها. 

ويشكل هذا تناقض صارخ مع العام الماضي، عندما كان العالم يعاني من أعلى معدلات وفيات كورونا، ومعها شهد الاقتصاد أيضًا واحدة من أعمق فترات الركود منذ عشرينات القرن الماضي. 

إذن، هل يعني هذا أن فعالية البلدان في حماية سكانها عن طريق التطعيم قد أدت إلى نتائج نمو أفضل؟ 

دعونا نعرف..

النتائج الاقتصادية لعدم حماية السكان 

تمت دراسة العلاقة بين الاقتصاد وإنقاذ الأرواح من الوباء لأول مرة من خلال بحث علمي لموقع "عالمنا في بيانات" (Our World in Data) ووجدت الدراسة أن أشد فترات الانكماش الاقتصادي كانت بشكل عام في البلدان التي كانت لديها أعلى معدلات وفيات كورونا. 

بينما البلدان التي شهدت ارتفاعات في نمو الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي كانت أكثر فعالية في حماية صحة سكانها. 

إن السرعة التي استجابت السلطات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مثل الصين وتايوان، للوباء في وقت مبكر أدت إلى تعافي أسرع في الوضع الاقتصادي. على الرغم من كون الصين مثلا  بؤرة الأزمة، إلا أن معدلات الوفيات في الصين كانت أقل مقارنة بالدول الأخرى، ونما الاقتصاد في الصين في الربع الثاني من عام 2020 بدرجة عالية بلغت 3.2%. 

يعتبر العديد من المحللين ان ذلك يمكن ان يعود إلى إمكانية ان تكون السلطات في آسيا قد تعلمت الدرس من الأوبئة السابقة. على سبيل المثال، هذه المرة، تصرفت السلطات الصينية بشكل أسرع لتقييد السفر مقارنة بتفشي سارس في عام 2003. 

على النقيض من ذلك، كانت البلدان التي شهدت أعمق فترات الانكماش وأعلى معدلات الوفيات تقع بشكل عام في أوروبا والأمريكتين. وفي الربع الثاني من عام 2020 انكمش الاقتصاد في منطقة الاتحاد الأوروبي ب -14.1% وفي الولايات المتحدة بنسبة -9.5% مقارنة بنفس الفترة من عام 2019. 

بالطبع هناك عوامل أخرى أثرت على معدل الوفيات والاقتصاد. لكن هذه طريقة بسيطة لتوضيح كيف أن البلدان التي كانت أكثر فاعلية في حماية السكان شهدت نتائج نمو أفضل. 

وبالعودة إلى سؤالنا الرئيسي، هل يمكن القول ان سرعة التطعيمات مهمة بالنسبة لتوقعات النمو للدول؟ 

قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب أن نضع في اعتبارنا أن طرح اللقاح ليس هو المحرك الوحيد للنمو في أي بلد. لكن المتابعين الاقتصادين قد وجدوا نمط يؤشر إلى ان الدول المتصدرة في سباق اللقاحات شهدت التحسن الأكبر في توقعات نمو الناتج المحلي. أي، كلما ارتفعت نسبة التطعيم، كلما زادت التوقعات للنمو الاقتصادي. 

وبحسب التقرير المذكور أعلاه، يبدو أن هناك تأثيرات أكثر إيجابية على توقعات النمو عندما تتجاوز معدلات التطعيم من الجرعة الأولى 40% من السكان.  

دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا الذين كان لديهم معدلات وفيات عالية جدا من الفيروس العام الماضي هم الآن في طليعة برامج اللقاحات. ويبدو أن المحللين قد أخذوا هذا في الاعتبار ورفعوا توقعات النمو لهذه الاقتصادات. 

بالمقارنة، كافحت معظم الأسواق الناشئة لمواكبة طرح اللقاح. بعض الاستثناءات هي تشيلي، حيث تلقى ما يقرب من نصف السكان الجرعة الأولى من اللقاح. وجاءت الترقيات لتوقعات النمو المتفق عليها هذا العام لتشيلي من بين أعلى المستويات في الأسواق الناشئة.

وطبعا إلى جانب معدل التطعيم المرتفع، من المرجح أن يكون الارتفاع في أسعار النحاس قد دعم توقعات النمو في تشيلي حيث تمثل صادرات النحاس حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي. 

وفي الوقت نفسه، تعد المكسيك حالة مثيرة للاهتمام حيث تم تعديل توقعات النمو بالزيادة على الرغم من انخفاض معدل انتشار اللقاح نسبيًا. وبحسب بعض الخبراء فإن ذلك يعود الى مناعة القطيع الإجمالية في المكسيك ضد الفيروس والتي تعتبر أعلى بكثير من باقي الدول. وقد يساعد هذا في تفسير توقعات النمو المتفائلة. في الوقت نفسه، كانت الآثار غير المباشرة من الحوافز المالية الأمريكية مهمة لتوقعات النمو في المكسيك. 

كيف يبدو المستقبل؟  

يشكل انتشار متحورات جديدة من الفيروس وضعف المناعة الطبيعية مع التأخر في توزيع اللقاحات تحدي كبير لاقتصاديات الدول الناشئة.  فمن المحتمل ألا تتمكن هذه البلدان من إعادة فتح أبوابها بالكامل حتى يتم تطعيم جزء كبير من السكان. 

وبشكل عام، الدليل واضح: من مصلحة السلطات في جميع أنحاء العالم أن يتم تطعيم سكانها لإنقاذ الأرواح ودعم اقتصادهم لتحقيق حياة و نمو اقتصادي أفضل. 

 

(إعداد:  محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان 

(للتواصلyasmine.saleh@refinitiv.com

لقراءة مقالات أخرى لنفس الكاتب:  

انتعاش ما بعد كورونا سيكون أسرع من  ما بعد أزمة 2009

الغذاء في لبنان: غلاء وشح واحتكار وتهريب 

أزمة القناة والتجارة الدولية: دروس وعبر 

عٌمان والنفط: نعمة ونقمة  

اغتيال الليرة 
 اقتصاديات ما بعد كورونا... العالم تغير كثيرا 

كورونا والاقتصاد ونحن ..كيف سنتغير؟    

القطاع المصرفي وامتحان فبراير: (الجزء الثاني)   

لبنان.. الطريق الى جهنم   

مئوية لبنان الكبير: لحظة الانبعاث او الزوال    

هل يطلق كورونا عصر العملات المشفرة؟  

لبنان في زمن التسويات الكبرى أوالحروب الكبرى  

سلطنة عمان : أحلام كبيرة تصطدم بالواقع الصعب؟   

لبنان : المصائب لا تأتي فرادى    

كورونا والكويت، كيف يبدو الوضع؟     

قرار الطرح العام أو الاستمرار كشركة خاصة.. هل هو اختيار بين جنة ونار؟   

العراق الجريح: بلد الفرص الضائعة  

لبنان إلى  أين ؟    

السودان: الصفقة والفرصة التي لا تفوت    

الكويت: الوضع الصعب  

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.