لا ينبغي للمتابع للشأن التركي أن يفاجأ بالمشاكل الاقتصادية والمالية الأخيرة. فأزمة البلاد الثلاثية (العملة، والبنوك، والديون السيادية) تتكشف منذ سنوات.

ولا يجب لوم كورونا على تلك الأزمة، فالتضخم المرتفع واتساع العجز ظلا يطاردان الاقتصاد التركي لسنوات قبل الجائحة.

لأكثر من عقد من الزمن، تجاوزت توقعات التضخم هدف 5?، وتراجعت قيمة الليرة التركية مقابل الدولار الأمريكي منذ أواخر عام 2017.

السياسات المالية المتبعة أثناء الوباء، والتي كانت عبارة عن مزيج من السياسات غير المستدامة، اعتمدت على النمو الائتماني المفرط، وبيع احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية لتعويض تأثير تدفقات رأس المال الخارجة، ما أدى إلى مزيد من نقاط الضعف، وإلى خسارة كبيرة أخرى في قيمة الليرة منذ يناير الماضي.

خلفية الازمة

حافظت تركيا على سعر صرف عائم منذ عام 2001، عندما أجبرتها أزمات البنوك والديون السيادية وميزان المدفوعات على التخلي عن ربط الليرة بسلة عملات تتألف من الدولار واليورو.

بعد ذلك، تبنت تركيا نظامًا لاستهداف التضخم يستخدم بموجبه البنك المركزي الأدوات النقدية للسيطرة على زيادة الأسعار، مع ابتعاده عن تعديل السياسة النقدية لرفع قيمة العملة أو خفضها، أو الاستجابة للصدمات الخارجية - مثل جائحة كورونا، والتي عادة ما تؤدي إلى خروج رؤوس الأموال من الاقتصاد.

ويمكن تقسيم أزمة تركيا إلى ثلاث مراحل.

المرحلة الأولى

ما قبل كورونا، كانت الليرة تنخفض ببطء حيث لم يتم معالجة المشاكل الهيكلية الأساسية في الاقتصاد ولم يكن استهداف التضخم أولوية عالية. وحالت قدرة البنوك التركية على الاقتراض بسهولة في الأسواق الدولية دون حدوث انخفاض حاد في قيمة العملة.

المرحلة الثانية

بدأت المرحلة الثانية من الأزمة مع انتشار الوباء في العالم. استجابت تركيا (مثل البلدان الأخرى) في البداية بالتوافق النقدي والضريبي. لكن السياسة النقدية التوسعية سرعان ما وصلت إلى حدودها. أدى انخفاض أسعار الفائدة إلى التحول إلى الدولرة، حيث أدى الإعراض المحلي والأجنبي عن الأصول المقومة بالليرة إلى انخفاض حاد في قيمة العملة، وهو ما حاولت تركيا كبحه ببيع ما يقرب من 130 مليار دولار من احتياطيات العملات الأجنبية.

ولكن حتى لو كان لدى البنك المركزي التركي المزيد من احتياطيات العملات الأجنبية لدعم الليرة، فلن تكون النتيجة مختلفة. في النهاية، كان لابد أن تخضع العملة لتصحيح حاد بمجرد تسعير الأسواق المالية لمخاطر الاقتصاد التركي، بالإضافة إلى مخاطر العملة. يمكن للدولة التي تنفذ احتياطاتها من العملات الأجنبية، من حيث المبدأ، الاقتراض من الأسواق الدولية ومواصلة التدخل لإدارة تقلبات عملتها. في الواقع، في أوقات عدم اليقين العالمي المتزايد، يكون الاقتراض بالعملات الأجنبية أرخص من الاقتراض بالعملة المحلية.

أدى هذا المزيج من السياسات غير المستدامة إلى زيادة مخاطر تركيا، كما يتضح من ارتفاع أسعار التأمين على التخلف عن السداد (credit default swaps). لا تستطيع البنوك إجراء توازن بين أسعار الصرف وأسعار الفائدة في دولة ذات تدفقات رأسمالية متحررة، حيث تتأثر شروط تمويل البنوك ليس فقط بالبيئة المالية العالمية ولكن أيضًا بمخاطر البلد. إن استخدام البنوك لهذا الغرض، بدلاً من تنفيذ سياسات مالية ونقدية ذات مصداقية، يؤدي إلى تدمير التوازنات الاقتصادية الداخلية والخارجية.

 المرحلة الأخيرة

 اما الان وبحسب اخر تقارير البنك الدولي، فقد نما الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 5.9% على أساس سنوي في الربع الاخير من عام 2020 ونمو عام كامل بنسبة 1.8%، على الرغم من التداعيات الاقتصادية لوباء فيروس كورونا. هذا النمو الاقتصادي هو نتيجة حزمة حوافز نقدية ومالية بلغت 13% من الناتج المحلي الإجمالي (حسب التقرير)، وكان معظمه عبارة عن دعم من خلال القطاع المصرفي في شكل ضمانات ائتمانية جزئية وتأجيل قروض. وشمل الدعم المالي الآخر مدفوعات الدعم الاجتماعي للأسر، ومساعدة العمال المسجلين، وتأجيل الضرائب، وغير ذلك من أشكال الدعم للشركات.

 وأيضا بحسب التقرير، جاء النمو من هذه السياسات على حساب ارتفاع الأسعار وإضعاف المالية العامة.

 اتجه التضخم إلى الارتفاع، حيث وصل إلى 15.6? في فبراير 2021 - وهو أعلى مستوى في 18 شهرًا. انخفضت قيمة الليرة التركية بنسبة 20% مقابل الدولار الأمريكي في عام 2020، ومن فائض في عام 2019 عاد الحساب الجاري إلى العجز (36.7 مليار دولار، أو 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي) مع تبخر الدخل السياحي، وتراجع الصادرات السلعية، وزيادة واردات الذهب.

  بعد تدخل البنك المركزي التركي لتمويل ما يصل إلى 80 في المائة من عجز الحساب الجاري، انخفضت احتياطيات النقد الأجنبي بشكل حاد، ووصلت إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة على أساس صافي. وارتفعت دولرة الودائع إلى 55%.

 يشير تحليل المحاكاة الذي اجراه أيضا البنك الدولي إلى أن الفقر قد يكون قد زاد بما يصل إلى 2.1 نقطة مئوية في عام 2020 ولو لم تتصرف الحكومة بسرعة لوقف الآثار الاجتماعية لـجائحة كورونا، لكانت الزيادة في الفقر أكبر بثلاث مرات. كما انه من المتوقع لهذا العام ان تكون هناك زيادة في القروض المتعثرة. إن تعزيز أطر تسوية القروض المعدومة، والإعسار، وإعادة هيكلة ديون الشركات خارج المحكمة مع تقييم فعال لجدوى الشركات سيكون أمرًا بالغ الأهمية لحماية الشركات والبنوك من التداعيات.

 حافة الهاوية

 من المتوقع أن تدخل تركيا عام 2021 بأعلى معدل فقر منذ عام 2012. وسيتطلب الحد من الفقر المزيد من سياسات التحويلات الاجتماعية، وخلق فرص عمل شاملة، واستراتيجيات تنشيط العمالة.

 ولكن، في ظل انخفاض الاحتياطات الأجنبية وأزمة المصارف والضغط على الليرة ومحاربة التضخم يبدو ان تركيا تحاول موازنة العديد من التناقضات على حافة الهاوية. 

(من إعداد محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق

الحريري بلبنان 

(للتواصل: ahmed.feteha@refinitiv.com)

© ZAWYA 2021

بيان إخلاء مسؤولية منصة زاوية
يتم توفير مقالات منصة زاوية لأغراض إعلاميةٍ حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي نصائح قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي آراء تتعلق بملاءمة أو قيمة ربحية أو استراتيجية ‏سواء كانت استثمارية أو متعلقة بمحفظة الأعمال . للشروط والأحكام