"الجميع سيعبر الأزمة، ولكن بديون أكبر.." هكذا قال الدكتور محمد العريان الاقتصادي الشهير في أحد المحافل – الافتراضية بطبيعة الحال – التي انتشرت بكثرة خلال العام الماضي عن تحليل أثر أزمة كورونا على مختلف دول العالم.

وحقيقةً هي أحد الأقوال التي علقت بذهني لأنها لخصت أحد أهم آثار كورونا الاقتصادية في جملة واحدة.

وبعيداً عن أزمة كورونا تحديداً، فإن الحديث عن تصاعد الديون وبالذات لدى الدول النامية لم يرتبط بظهور الفيروس فقط، ولكنها كانت مشكلة تتصدر التحليلات الاقتصادية وحذرت منها المؤسسات المختلفة لسنوات قبل الجائحة، لكن جاءت كورونا لتزيد الأمور تعقيداً بما أسكبته من وقود على نيران المالية العامة وعجز الموازنات في الدول المختلفة بسبب الدواعي المستحدثة بفعل الجائحة للتوسع في الإنفاق. 

وفي مثل تلك الظروف تزداد ضرورة النظر في كفاءة استراتيجيات إدارة الدين العام وتطوير قدرتها على الحد من المخاطر التي تتفاقم باستمرار، حتى لا نفاجأ بعد انحسار الجائحة بمرض آخر قد يكون أكثر خطورة يفتك بجسد الاقتصاد ويهدد بالعودة للوراء في تنمية المجتمعات. 

ما هي استراتيجية إدارة الدين العام...؟ ولماذا هي ضرورية...؟ 

تعتبر محفظة الدين الحكومي هي المحفظة الأكبر في أي بلد تقريبا، وبطبيعة الحال تتضمن هياكل معقدة من الاستحقاقات مختلفة الآجال والعملة والتكلفة. وفي حال لم يتم التعامل بحرص مع إدارة تلك المحفظة، قد تتعرض استدامة المالية للعامة واستقرار الاقتصاد الكلي لمخاطر بالغة.

فعبر السنوات، كان الهيكل الضعيف للدين العام من حيث آجال الاستحقاق أو العملات المستحق بها الدين أو هيكل أسعار الفائدة المستحقة، أحد الأسباب خلف أزمات اقتصادية عديدة. 

فعملية الاقتراض العام تنطوي بطبيعتها على مخاطر متنوعة، وهي ليست فقط مخاطرة "عدم القدرة على السداد" التي تقفز للذهن فوراً عند الحديث عن الديون، فتلك هي مخاطرة الائتمان وهي فقط واحدة من أنواع المخاطر التي تتنوع بشكل كبير في مجال الاقتراض الحكومي، وهناك غيرها الكثير مثل مخاطر السوق والتي تعني التغيرات التي تحدث في متغيرات السوق كأسعار الصرف وأسعار الفائدة وأسعار السلع. 

وهناك مخاطر التجديد، وهي احتمالية الاضطرار لتجديد الديون بتكلفة أكثر ارتفاعاً بشكل كبير، أو – في الحالات المتطرفة – عدم القدرة على التجديد على الإطلاق.  

ومخاطر السيولة، وهي نوعان... الأول هو بالنسبة للمقرض، أو صاحب رأس المال، وتتمثل في الخسارة التي يتكبدها إذا أراد الخروج من مركز ما بينما لا يقل عدد المتعاملين بشكل يسبب له خسارة كبيرة، أي بسبب افتقار السوق للعمق المالي المطلوب.

أما النوع الآخر، فهو بالنسبة للمقترض، حين تتناقص الأصول السائلة للمقترض بشكل سريع بسبب خروج تدفق نقدي بشكل سريع مثلا أو غير متوقع، مع وجود صعوبة في تعبئة النقد بالاقتراض بنفس السرعة. 

وهناك كذلك المخاطرة التشغيلية، وهي تشمل أنواع مختلفة، منها أخطاء المعاملات في التنفيذ والقيد، أو عدم كفاية أو قصور أو إخفاق نظم الرقابة والتدقيق الداخلية، أو المخاطر القانونية. 

ولذا، تتطلب إدارة الدين العام وضع، والأهم تطبيق، استراتيجية لإدارة الدين الحكومي بما يضمن إدارة مخاطر الدين من ناحية وتحقيق أهداف المالية العامة المختلفة من ناحية أخرى، لضمان استمرار قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها بدون الاضطرار لاتخاذ قرارات عنيفة أو صادمة للاقتصاد ككل.

وهذه هي استراتيجية إدارة الدين العام، هي عملية التأكد من إمكانية استدامة وضع الدين العام مع سداد الالتزامات في توقيتاتها المحددة، والموائمة بين ذلك وبين تحمل أقل تكلفة ممكنة – على المدى المتوسط والطويل – على المالية العامة للدولة والتي هي موارد المواطن والأعباء التي يتحملها في نهاية الأمر. 

وفي ظروف عادية، ناهيك عن وجود أزمة طارئة كجائحة كورونا، يعتبر وجود استراتيجية كفء لإدارة الدين أمر ضروري لسلامة السياسة المالية.

فمن ناحية، وجود مثل تلك الاستراتيجية يساعد على خفض تكلفة الدين العام، حيث تعطي المستثمرين – المقرضين في هذه الحالة – ثقة كبيرة في إدارة مديونيات المقترض وقدرته على الوفاء بالتزاماته نحوهم. كما تستفيد سوق المال المحلية للدولة من وجود أدوات مالية متنوعة ذات تسعير جيد من ناحية كبدائل للاستثمار ومن ناحية أخرى توفر ما يسمى بمعايير مرجعية benchmarks لتسعير أدوات استثمارية أخرى، مما يساهم في إضافة عمق لسوق المال المحلية. 

 إلا أن استراتيجيات إدارة الدين العام – مهما كانت محكمة ودقيقة – ليست علاج في ذاتها، بل هي جزء من كل. فهي أداة تتبناها الدول في إطار سياسات كلية أكثر شمولاً للاقتصاد الكلي والمالية العامة، فلا تستطيع استراتيجيات إدارة الدين أن تقدم الكثير في ظل معدلات نمو متواضعة أو سياسات نقدية غير مواتية، وإنما يجب أن يكون هناك إطار شامل يضمن الاستدامة المالية، وهو ما يجعل هناك معايير عدة للاستراتيجية الناجحة لإدارة الدين، وما يمكن أن يقابلها من تحديات، وهو موضوع أكثر اتساعاً سنتناوله في مقال لاحق. 

(إعداد: إسراء أحمد، المحللة الاقتصادية بزاوية عربي، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

لقراءة مقال سابق لنفس الكاتبة:

كيف دخل السودان الحلقة المفرغة...؟  

لماذا خفضت موديز تصنيفها الائتماني لتونس؟ 

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.