استقطب القطاع المصرفي الجزء الأكبر من تجليات الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها لبنان وبات أغلب الناس يتابعون بكثب أخبار القطاع المالية وهاجسهم الأساسي مصير ودائعهم 

كانت نتيجة الأزمة ان فقد القطاع السيولة اللازمة ومعها فقد ثقة المودعين والقطاع الخاص. 

وتتطلب إعادة احياء القطاع المهدد بالإفلاس إجراءات اصلاحيه هيكلية تعيد ثقة المودعين وتعود معها السيولة والنجاة.    

وقد وضع البنك المركزي خريطة طريق حدد فيها نهاية فبراير فرصة للمصارف لإعادة الرسملة وهيكلة القطاع. ويأمل العديد من المودعين ان لا تكون هذه الإجراءات مجرد عمليات حسابية كما سابقاتها بل ذات قيمة اقتصادية حقيقة تحسن ظروف القطاع وتنعكس إيجابيا على تخفيف المخاطر عن المودعين ومصير الودائع.    

  ودعونا هنا  سريعا نستعرض ماضي القطاع المصرفي اللبناني والذي بالتأكيد سيساعدنا في توقع ما هو قادم 

 ازدهر القطاع المصرفي اللبناني في ستينات القرن الماضي مع تدفق أموال النفط العربية، وانتعش في وقت الصراع العربي الإسرائيلي حيث تمكن من استقطاب رؤوس الأموال الهاربة من التأميم بحثا عن جنة السرية المصرفية.   

 ثم تمكن القطاع من تخطي أزمة الثمانينات والتي اتخذت شكل التضخم المفرط وتدهور سعر الصرف بعد ان تمكن من رفض تمويل القطاع العام العاجز والخاضع للمليشيات المتناحرة في زمن الحرب الأهلية. بل أكثر من ذلك تحول القطاع الى نجم القطاعات الاقتصادية الذي تمكن من تخطي الحرب رغم الصعوبات وبات العمود الفقري للاقتصاد اللبناني.   

 تخلى القطاع المصرفي عن حبل خلاصه السابق في التسعينات بعد انغماسه في استقطاب ودائع اللبنانيين وخاصة المغتربين والعديد من المواطنين العرب بالدولار واستخدام هذه الودائع لتمويل العجز في القطاع العام عن طريق الاكتتاب بإصدارات اليوروبوند، والاحتياطي الأجنبي لمصرف لبنان بالاستثمار في شهادات إيداع لدى المركزي بالدولار الأميركي.   

 بدأت تتجمع عوامل الأزمة الحالية بعد ان اهدرت الدولة الودائع التي اقترضتها على السياسات الاقتصادية الخاطئة إضافة الى استفحال الفساد والهدر في القطاع العام وافراغ البنك المركزي احتياطات الدولار على تمويل الدولة، والدفاع عن سعر الصرف وتلبية احتياجات الاستيراد في بلد يشكل فيه الاستيراد حوالي 80% من الاستهلاك. 

وهكذا باتت المصارف عاجزة عن استرداد الودائع مع اعلان الدولة التعثر والعجز عن سداد اليوروبوند وانكشاف المركزي بعد نفاذ الاحتياطي الأجنبي، في الوقت الذي يساهم فيه  انهيار سعر الصرف وتدهور الاقتصاد في ارتفاع مخاطر تعثر المقترضين من القطاع الخاص بالدولار وعجزهم عن سداد هذه الديون للمصارف.   

  الانكشاف على شهادات الإيداع لدى مصرف لبنان 

  تشير وكالة بلومبرغ الى ان البنك المركزي عليه شهادات إيداع بالدولار الأميركي تبلغ قيمتها حوالي 52.5 مليار دولار أميركي يعود معظمها الى القطاع المصرفي اللبناني الذي كان قد استثمر ودائع المواطنين منذ عام 2016 و أكثر من 8 مليار تستحق في 2022  و 2023.   

  يبلغ معدل الاحتياطي الإلزامي في لبنان 15%  على الودائع بالدولار الأميركي. 

فاذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان قيمة الودائع بالعملات الأجنبية اليوم تبلغ حوالي 112 مليار دولار،  فإن تغطيتها الإلزامية في المصرف المركزي تبلغ حوالي 17 مليار دولار. والجدير بالذكر ان البنك المركزي قد أعلن مؤخرا ان الاحتياطي الأجنبي قد استنفذ  ووصل الى مستوى الاحتياطي الإلزامي. 

هذا يعني انه على المصارف ان تتوقع عدم سداد شهادات الإيداع في أي وقت قريب واغلب الظن ان البنك المركزي سيقوم بإعادة جدولة هذه الديون أو سدادها بالليرة اللبنانية، ما يعني استمرار معاناة القطاع مع أزمة شح الدولار .   

 الانكشاف على القروض المتعثرة 

 إضافة الى الانكشاف على الديون السيادية وشهادات الإيداع لدى البنك المركزي، تواجه المصارف مخاطر قروضها المتعثرة لدى القطاع الخاص والذي شرعته الأزمة الاقتصادية على مصراعيه. 

وتبلغ قيمة التسليفات المصرفية للقطاع الخاص بالعملات الأجنبية حوالي 30 مليار دولار. 

وبالرغم من ان هذه الديون تسدد حاليا بالليرة اللبنانية ومقابل سعر الصرف الرسمي المعتمد لدى البنك المركزي (1500 ليرة مقابل الدولار في الوقت الذي يراوح فيه سعر الصرف الحقيقي فوق 8000 ليرة مقابل الدولار) يقدر معظم الاقتصاديون ان نسبة التعثر  تبلغ 20% من قيمتها في الحد الأدنى، والذي يعني ان 20% من ال30 مليار لن تسدد، نتيجة التضخم المفرط الذي اتى على القدرة الشرائية للرواتب بالليرة اللبنانية إضافة  إلى الجمود الاقتصادي وشح الدولار ما يزيد من خسائر المصارف العاجزة عن استرداد دولاراتها.   

  ومنذ بداية الأزمة حاول البنك المركزي تقليل هذه المخاطر واحتواء الأزمة.

كان في تعميمه الأول إصرار على استمرار دفعها وكذلك إعادة هيكلة الديون المتعثرة عبر إطالة الاجل، ثم  الحق ذلك بتعاميم أخرى تطالب المصارف بوضع سقوف على الفوائد مقابل خفض الفوائد المدينة.   

  ولكن لم تتمكن هذه الإجراءات حتى اليوم من إعادة الثقة بين القطاع الخاص والمصارف في لبنان خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة وتوقف التسليفات وغيرها من الخدمات المصرفية مع توجه المواطنين الى تقليص الودائع المحفوظة في المصارف وسحب أموالهم  وتخزينها في البيوت. كما ان إجراءات ضبط الرساميل أو (كابتل كونترول) التي اتخذتها المصارف في غياب نص قانوني يجيز لها ذلك ساهم في توسيع الهوة مما أدى بالمواطنين والمغتربين الى التوقف عن ارسال تحويلاتهم وأموالهم الى لبنان خوفا عليها من الاحتجاز في القطاع المصرفي.   

  غياب الودائع الجديدة من الداخل أو الخارج، وتوجه الناس إلى سحب أموالهم وتخزينها في البيوت او بالأصول الحقيقية كالذهب والعقارات يصعب الأمر أكثر على المصارف استعادة دورها في حركة الإنتاج الاقتصادية.   

  وهنا، يمكننا ان نسأل هل يمكن ان تكون إجراءات البنك المركزي فاعلة؟ و هل تتمكن هذه السياسات من  إطالة عمر القطاع المصرفي وتأجل او تمنع الانهيار وان كانت الإجابة بلا، فما الحل؟ 

الإجابة في الجزء الثاني من هذا المقال 

 لقراءة مقالات أخرى لنفس الكاتب:

لبنان.. الطريق الى جهنم 

مئوية لبنان الكبير: لحظة الانبعاث او الزوال  

هل يطلق كورونا عصر العملات المشفرة؟

لبنان في زمن التسويات الكبرى أوالحروب الكبرى

سلطنة عمان : أحلام كبيرة تصطدم بالواقع الصعب؟ 

لبنان : المصائب لا تأتي فرادى  

كورونا والكويت، كيف يبدو الوضع؟   

قرار الطرح العام أو الاستمرار كشركة خاصة.. هل هو اختيار بين جنة ونار؟ 

العراق الجريح: بلد الفرص الضائعة

لبنان إلى  أين ؟  

السودان: الصفقة والفرصة التي لا تفوت  

الكويت: الوضع الصعب

(إعداد:  محمد طربيه، المحلل الاقتصادي بزاوية عربي و أستاذ محاضر ورئيس قسم العلوم المالية والاقتصادية في جامعة رفيق الحريري بلبنان)

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com)

 

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.