"الحكومات قد تخفق لأنها تفعل أقل مما ينبغي، أو لأنها تفعل أكثر مما ينبغي؛ فدورها يتحدد ويتطور عبر الزمن وفقًا لدرجة نُضج القطاع الخاص".

 (السير "وليام آرثر لويس"، اقتصادي أمريكي مرموق، عاش في الفترة 1915 - 1991)
 
متى تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي؟

يُثير هذا التساؤل جدل واسع بين الاقتصاديين على مر العصور.

فريق منهم يؤمن بأن التدخل الحكومي ينبغي أن يكون محدود للغاية؛ لأنه يتسبب في تشوهات عدة، تصيب تخصيص الموارد وأسواق المنتجات.

في المُقابل، يُجادل آخرون بأن هناك حجج قوية تدعم تدخل الدولة في مجالات مختلفة. وفي مقدمة هؤلاء الاقتصادي البريطاني المرموق، السير "جون ماينارد كينز" الذي خلص إلى أن التدخل الحكومي في النشاط الاقتصادي يُعزز من مستويات النمو، باعتباره مُحرك رئيسي له. وهو الأمر الذي يُنبؤنا به التاريخ والحاضر.

الإعلان عن عودة الحكومات الكبيرة

 إذا أخذنا الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج، سنجد أنه منذ 25 عام، وتحديدًا في عام 1996، وقف الرئيس الأمريكي الديموقراطي "بيل كلينتون" - وقتئذ - يُلقي "خطاب حالة الاتحاد" الذي أعلن خلاله أن "عصر الحكومة الكبيرة قد انتهى" (The Era of Big Government is Over). 

أما الآن، وبعد كل هذه السنوات، بدأت التحليلات الاقتصادية تُشير إلى أن قرارات الرئيس الأمريكي الحالي "جو بايدن" تُعلن "عودة عصر الحكومة الكبيرة".

جاء هذا الإعلان الضمني عندما كشفت الإدارة الأمريكية الحالية في 2021 النِقاب عن أضخم ميزانية في التاريخ الأمريكي منذ نصف قرن، مع توجيه 2 تريليون دولار أمريكي إلى البنية التحتية والتوظيف، بعد أن عصفت جائحة "كوفيد-19" بالنشاط الاقتصادي، وسجل نموه مستويات قياسية سالبة (-3.5%) عام 2020.

ليس هذا فحسب، ولكن هناك مواقف أخرى تُؤيد "إعلان عودة الحكومة"، يأتي في مقدمتها تأييد الحزبين الديموقراطي والجمهوري في مجلس الشيوخ تشريع طرحته الإدارة الأمريكية لتوجيه نحو 52 مليار دولار أمريكي إلى صناعة أشباه المُوصلات والأبحاث المرتبطة بها، كاستجابة للمواجهة الضارية بينها وبين الصين في ساحة هذه الصناعة الحيوية التي أصبحت منتجاتها أحد مقومات الأمن الاقتصادي القومي. 

هل اختفت الحكومات الكبيرة لتعود مُجددًا؟

يقينًا، ارتبط الإعلان الأمريكي – الضمني – عن عودة الحكومة الكبيرة، بتداعيات جائحة "كوفيد – 19"، وحربها التكنولوجية ضد الصين. ولكن هذا الطرح يثير تساؤل عما إذا كانت صفة "الكبيرة" قد تلاشت منذ فترة زمنية عن حكومات الدول، لتعود مرة أخرى؟ 

بالرغم من عدم وجود إجابة قاطعة، فإنه يُمكن الوقوف على بعض الأدلة التي تنفي هذه الفرضية.

على سبيل المثال، تُشير إحصاءات "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD) إلى أن قيمة "الشركات المملوكة للدولة" كانت تزيد على 2 تريليون دولار أمريكي في عام 2012. تأتي غالبيتها في قطاعات استراتيجية يعتمد عليها الاقتصاد الخاص.

وفي سياق متصل، يُشير تقرير للبنك الدولي – الصادر مؤخرًا في يونيو 2021 –إلى أن الشركات المملوكة للدولة في بلدان الأسواق الصاعدة والبلدان النامية تتجازوز قيمتها الـ 45 تريليون دولار أمريكي؛ أي ما يعادل نصف الناتج المحلي العالمي.

ومما لا شك فيه أن هذه الشركات لم تؤسس بين ليلة وضحاها، ولكنها جاءت نتيجة لاستثمارات حكومية تراكمية عبر الزمن.

الجدير بالذكر أن هذه الشركات المملوكة للدولة قد أسهمت في تطوير أسواق رأس المال المحلية، وزيادة درجة عمقها؛ حيث تضم السوق الحالية حصة كبيرة نسبيًّا من الشركات المملوكة للدولة (سابقًا)، تُمثل حوالي 13 – 22% من جملة رأس المال السوقي لهذه الأسواق.

ولا شك أن إدراج "الشركات المملوكة للدولة" في سوق الأوراق المالية يعود بفوائد عدة على الدولة؛ منها: تعميق رأس المال السوقي للبورصة، وتوليد عوائد لماليتها العامة، يُمكن الاستفادة بها في دفع الدين الحكومي، فضلًا عن كونها آلية لتوزيع الثورة بين مختلف فئات المجتمع. ومن ثَمَّ، كلما قامت حكومات الدول بتأسيس "شركات" – تعمل في قطاعات استراتيجية – وطرحها جزئيًّا/ كليًّا في سوق الأوراق المالية، فإن ذلك من شأنه تعزيز النشاط الاقتصادي والرفاهية الاجتماعية.

الإجابة: الصين

وأخيرًا، نجد أن الصين – ثاني أكبر اقتصاد في العام – تضم أكبر عدد من الشركات المملوكة للدولة في العالم؛ حيث يزيد عددها على 150 ألف شركة، في الوقت الذي لا يتجاوز عدد هذه الشركات في دول عدة الـ 100 شركة.

تأسيسًا على ما تقدم، يُمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد استوعبت درس قاسي خلال الفترة الماضية، يتمثل في أهمية استعادة الحكومة الكبيرة "القوية اقتصاديًا".

ففي الوقت الذي كانت بالفعل الحكومة الصينية – وغيرها من حكومات دول أخرى – تكبر يوم بعد يوم، إيمانًا بدورها الرئيسي في النشاط الاقتصادي، كانت الشركات الأمريكية المملوكة للدولة تخبو. ولعل "البنك الدولي" قد عبر عن هذه الحقيقة في مقولته بأن "المؤسسات المملوكة للدولة  موجودة في كل البلدان، ويصل عددها إلى الآلاف في بعضها، كما في الصين وألمانيا والهند وروسيا. بالإضافة إلى كونها طرف رئيسي ومؤثر في كثير من الاقتصادات".

يا ترى ماذا سيحدث لاحقا خلال 5 أو 10 سنوات؟
 
( المقال من إعداد: رشا مصطفى عوض، خبيرة سياسات عامة ورئيسة الإدارة المركزية لدعم القرار في مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري. وحاصلة على درجة الدكتوراه في الاقتصاد)

© Opinion 2021

المقال يعبر فقط عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية استثمارية معيّنة.