في أجزاء سابقة، تناولنا بعض جوانب ملف الديون العالمية، أهم تعريفاتها والمؤشرات المبدئية المتعارف عليها لقياس مديونيات الدول. إلا أن الأمر، كما نكرر كثيراً، ليس بهذه البساطة. فقضية الديون أكثر تشعباً وتعقيداً ولها العديد من العواقب والتبعات، خاصة في الوقت الحالي مع تعرض الاقتصاد العالمي للعديد من الصدمات بسبب جائحة كورونا.  

لقراءة الأجزاء السابقة: 

الديون ومتاهاتها... ماذا تعرف عنها..؟  

في متاهات الديون (الجزء الثاني): "الاستدامة"..  

وفي الفترة الأخيرة، ومع تصاعد القلق حول مستوى الدين العالمي، ظهرت دراسات وتقارير مختلفة تتناول مدى قابلية حدوث أزمة ديون على مستوى الدول المختلفة. على سبيل المثال، قدم د. محمود محيي الدين ود. سارة الخشن دراسة مفصلة في منتدى البحوث الاقتصادية في مصر حول أوجه الخطر التي تحيط بالدول النامية تحديداً فيما يخص الديون في عصر أزمة كورونا، تلك الأزمة التي تراها الدراسة مختلفة عن معظم الأزمات السابقة التي سببها خطأ بشري ما، بينما جاءت كورونا كعامل خارجي خارج عن السيطرة. وهنا، نسلط الضوء على تلك الدراسة وأهم ما جاء فيها.  

لماذا الدول النامية هي الأكثر هشاشة وحساسية لتفاقم الديون؟  

1- بشكل عام، وكما تشير الدراسة، تختلف الديون التي تحصل عليها الدول النامية والأسواق الناشئة عن غيرها من مجموعات الدول الأخرى. فمثلاً، تعتمد معظم ديون تلك الدول على شروط أسواق رأس المال العالمية، بينما تعتمد الدول ذات الدخل المنخفض على القروض الميسرة، والتي تنطوي على شروط أكثر كرماً بكثير من تلك التي يوفرها الاقتراض من الأسواق العالمية. ومع اختلالات ميزان المدفوعات والتدفقات الأجنبية المختلفة، وبالذات مع انحسار تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، تكون النتيجة هي تصاعد الديون بشكل كبير ومتسارع.  

2- ومن ناحية أخرى، يعتبر تزايد مديونيات الأفراد والعائلات، والشركات خارج القطاع المالي، أمر يعتبر جدير بالحرص والدراسة، حيث تشير الدراسة إلى أنه في الربع الأول من 2020، ارتفعت نسبة إجمالي الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في معظم عينة الدراسة من الدول النامية، مدفوعة بتزايد ديون القطاع العائلي والشركات خارج القطاع المالي (حيث بلغت نسبتهما حوالي 60% من إجمالي الدين في الدول النامية والأسواق الناشئة). وهي علامة خطر أخرى – بحسب الدراسة – حيث ذكر تقرير الاستقرار المالي الذي أصدره صندوق النقد الدولي في وقت سابق من العام الحالي، إلى أن تزايد ديون هذين القطاعين يزيد من الهشاشة المالية في الدول النامية والأسواق الناشئة، تحديداً في أوقات تباطؤ النمو الاقتصادي.  

3- كذلك فإن الناحية الاجتماعية والسكانية لمعظم تلك الدول هي عامل آخر. فمعظمها له عدد كبير من السكان، مع تركيبة سكانية صغيرة السن إلا أنها تعاني كذلك تفاوتات كبيرة في مستويات الدخل ومعدلات فقر مرتفعة، مع ضعف نسبي في كفاءة المؤسسات المالية التي تقوم بمهمة تعبئة المدخرات والموارد. ما علاقة ذلك بالدين العام...؟ جزء من الإجابة هو أنه مع تزايد الاعتماد على موارد وقروض خارجية، تذهب نسبة أكثر من الإنفاق إلى خدمة الدين على حساب الإنفاق الاجتماعي من ناحية، ومن ناحية أخرى معدلات نمو أبطأ تؤدي لتدني مستوى الدخل القومي بما يهدد استدامة الديون على المدى الأطول. ألم نقل مسبقاً أنها دائرة شديدة التعقيد؟  

4- إن خطر الجائحة لا يتمثل فقط في توسع الدول المختلفة في الاستدانة فحسب، وإنما أيضاً في تعميق بعض أوجه الخلل والهشاشة المتواجدة بالأصل والتي تعود إلى سنوات سابقة، حيث تلاقت الجائحة مع فترة من التباطؤ الاقتصادي واختلالات متواجدة بالأصل في الأوضاع المالية للعديد من الدول النامية، تلك الاختلالات التي لم تكن لتصبح بنفس الحدة والخطورة في حال كان هناك معدلات نمو متسارعة، وإنما جاء التباطؤ الاقتصادي المتزايد بسبب الجائحة ليكب بعض الملح على الجرح. وجدير بالذكر هنا أن معدلات النمو الاقتصادي قبل أزمة كورونا أقل بشكل ملحوظ من تلك التي سبقت الأزمة المالية العالمية في 2008، بما يعني أن الدول النامية تدخل أزمة كورونا في وضع أضعف من ذلك الذي دخلت به الأزمة المالية العالمية.  

ماذا يجب ان تفعل الدول النامية؟ 

وترى الدراسة أن الدول النامية لابد وأن تحافظ على المرونة اللازمة في أسعار صرف عملاتها، الأمر الذي يشكل حماية ولو نسبية من سلوك المضاربين في سوق السندات، وبالذات في الدول ذات الإطار المؤسسي الذي لم ينضج بشكل كاف بعد.  

وكذلك لابد وأن تشمل المبادرات الدولية لتأجيل سداد مستحقات الديون دول نامية متوسطة الدخل من تلك التي تعاني هشاشة في قطاعها الخارجي وتمويلاتها الخارجية، ولا تشمل الدول منخفضة الدخل فقط،. 

إلا أنني أرى أن أهم ما يجب أن يحتل أولويات الدول النامية حالياً هو الخروج بأقل الخسائر فيما يتعلق بمعدل النمو.  فالوقت غير مناسب لأية إجراءات ذات طابع انكماشي أو أية مؤثرات سلبية على النشاط الاقتصادي. وإن كان التباطؤ موجود لا محالة لعديد من الأسباب، ولحالة الشلل التي أصابت الحياة اليومية العادية، فالأولوية هنا لتقليل أثر الجائحة على الاستهلاك من ناحية كمحرك رئيسي، وكذلك محاولة حماية الفئات الأفقر.

وإن كان لابد من الاقتراض لمواجهة الآثار السلبية، فليكن إذن الوجهة الأولى للأموال المقترضة – بجانب  دعم القطاع الصحي بالطبع لمواجهة الفيروس – هي استثمارات تدعم من فرص النمو وبالذات تلك التي تكفل للقطاع الخاص سرعة النهوض والعودة إلى نشاطه الطبيعي بأسرع ما يمكن عند انقشاع ضباب التباطؤ والركود الحالي. 

(إعداد: إسراء أحمد، وعملت إسراء سابقا كاقتصادي أول بشركة شعاع لتداول الأوراق المالية - مصر، وكذلك شركة مباشر لتداول الأوراق المالية، بالإضافة لعملها كباحث اقتصادي في عدة وزارات مصرية) 

(للتواصل: yasmine.saleh@refinitiv.com) 

تغطي زاوية عربي أخبار وتحليلات اقتصادية عن الشرق الأوسط والخليج العربي وتستخدم لغة عربية بسيطة. 

© Opinion 2020

المقال يعبر فقط عن عن أراء الكاتب الشخصية
إخلاء المسؤوليّة حول المحتوى المشترك ومحتوى الطرف الثالث:
يتم توفير المقالات لأغراض إعلامية حصراً؛ ولا يقدم المحتوى أي استشارات بخصوص جوانب قانونية أو استثمارية أو ضريبية أو أي نصائح أو أراء بشأن ملاءمة أو قيمة أو ربحية استراتيجية أستثمارية معيّنة.